جهاد أسعد محمد جهاد أسعد محمد

بين قوسين: دراما تحت الطلب

يقتل الأب ابنه بطريقة فجائعية في مسلسل فانتازي، سوريّ الهيئة، نفطيّ الهوى، لأنه اعتدى على «سيادة» إمارة أخرى.. هذا المسلسل الذي رصدت له إمكانات ضخمة غير مسبوقة، وحقق ثورة في عالم الصورة والموسيقى التصويرية، تم إنتاجه بعيد اجتياح الكويت من جارها الشمالي وما تلاه من «ازدحام» رسمي عربي، و«جنون» دولي لطرد الجار المعتدي الخارج على قانون النفط الدولي..

في مسلسل فانتازي آخر، سوريّ الهيئة، كلينتوني الهوى، وبعد تفكيك شيفرته البدائية، نرى العرب المظلومين يتفقون مع قادة العالم الأمريكيين ومع «أوادم» الصهاينة، ويعيش الجميع في سلام ووئام بعد أن يطردوا أو يُقصوا المتطرفين من كل جانب.. وطبعاً تم إنتاج هذا المسلسل في أوج نشاط الأفكار السلمية التي أنتجت «أوسلو» و«وادي عربة»، وكانت تحاول إنتاج اتفاقيات «تعايشية» أخرى أكبر وأخطر..

وعلى الفور، دعم هذا التوجه مسلسل مصري جماهيري، بطله «يساري أصيل» واقعياً وحاج متعدد الزوجات درامياً، يتصالح فيه ابنا هاجر وسارة بعد صراع طويل، ويقبّل كل منهما شارب الآخر، فيزوجون أبناءهم من بناتهم، و«يا دار ما دخلك شر».. في وقت كان الفلسطينيون المقاومون لتوجهات «السلام» يُحاصَرون ويُذبَحون في مدن ومخيمات الضفة وغزة..

وفي مسلسل سوري ثالث، ليبرالي الهوى، نجد أنفسنا أمام دراما عائلية «مدنية» جذّابة خالية من الشتائم، ومن الكلمات النابية، الأغنياء متسامحون مع الفقراء السذّج الحسودين دون ضغائن، والجميع يلتقون في بيت واحد مليء بالمحبة.. في وقت كانت البلاد فيه تنعطف نحو النيوليبرالية بشدة، وتصل الفوارق الطبقية فيها لمستوى الهوة..

وأيضاً، في مسلسل مصري، تاريخي الفصاحة، نفطي التمويل، فوضى- خلاقيّ الهوى، تشتم الحرّات العربيات الجواري الفارسيات لأنهن فارسيات وحسب، ويقتل صاحب الأمر الورع رغماً عن أنف التاريخ، مستشاريه وقادته الفرس لأنهم فُرسٌ «حاقدون»، ويُسخَّف أحفاد الحسين ويتّهمون بالردة والفجور.. ويظهر اليهود كإداريين مخلصين.. وقد قُدّم هذا المسلسل للجمهور العربي «الأبيّ» بالتزامن مع الانتهاء من الاستعدادات لغزو العراق لنهبه وإشعال الاقتتال الأهلي فيه، ومع تجدد مشاريع الفتنة الطائفية في لبنان، وكل ذلك بالتأكيد، على خلفية أفكار «رايس» عن «الخطر الفارسي النووي» و«حقوق الأقليات والاختلافات فيما بينها».. والحديث العلني عن الفوالق المذهبية والدينية والقومية في المنطقة.

وتدور عجلة الدراما «العربية المستقلة».. فنجد أنفسنا تارة أمام أعمال تندد بـ«الإرهاب» وفق التعريف الأمريكي له بعيد 11 أيلول، وتارة أمام أعمال تمجّد بدعة «حوار الحضارات» وتندد بالصراع الطبقي مع بروز أفكار الشراكات.. أما الأتراك، فهم أعداء ومحتلون في مواسم درامية «بائتة»، وأولاد بلد طيبون في المواسم الذي تلتها.. وكل ذلك مرهون بتذبذب العلاقة الرسمية العربية ـ التركية..

وتستمر الدورة.. ويتكاثر عدد الدراميين الذين يضعون أنفسهم في خدمة جهات مختلفة وأفكار ومصالح مختلفة بشكل مباشر أو غير مباشر..

في الموسم «الدرامضاني» الحالي على سبيل المثال، نجد نجماً محلياً على هيئة سائق تاكسي وقد أصبح ناطقاً باسم بعض السلطات التنفيذية ناشراً لخطاباتها، منافساً زميلاً له لا يقل نجومية ينطق باسم الجهة نفسها، أو جهة أخرى ربما، بعد أن تقمّص شخصية رجل دين متطرف... وكلاهما يرد دون وعي أو إدراك على دراميين آخرين متعددي اللهجة والأزياء والأجواء والتمويل وضعوا أنفسهم في مواقع أخرى وفي خدمة آخرين.. وفي الموسم القادم سنجد آخرين.. وهكذا..

الدراما الماثلة تحت الطلب ملعب للجميع.. للساسة متعددي اللغات والطموحات، ولرجال الأعمال، وللعسس، وللكهنوت... إلخ.. ولا يستطيع القائمون عليها أن يكونوا غير ذلك لأنهم بدؤوا من نقطة خاطئة. أما الدراما التي يحاول حاملوها إبقاءها «نظيفة»، فبكل أسف، ليست بمأمن حقيقي من التبعية والانقياد والتذبذب، لأنها في النهاية تخضع لرقابة داخلية وخارجية صارمة ولشروط المنتجين والمحطات الفضائية الثرية.. من هنا خطورة المسألة..

تُرى.. أي تشتيت وتشوه تخلق كل هذه الفوضى لدى المتلقي/ الجمهور؟؟

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

آخر تعديل على الإثنين, 25 تموز/يوليو 2016 16:46