سيرة الخداع
حدث أن ركضت بوعي شخصي في مناسبات متعددة نحو البحث في اتجاهات مختلفة طلباً للخداع والمراوغة لدرجة أنها باتت تشكل المقياس الشخصي لتحديد مستوى الأعمال التي تشغلني، فالنشاط الذي يخلو من الخداع بات عندي أشبه باللوحة التي تعانق الطبيعة وتخلو من الألوان، الخداع ارتبط في حياتي بالإبداع حتى أني أكاد أجزم بأنه صار يمثل في حد ذاته شغفي للاهتمام بكل شيء: القراءة.. الكتابة.. المشاهدة.. الاستماع.. الأكل.
سيرة الخداع هي بالضبط سيرة المفارقة التي تقودنا لنبذ كل مفردة غير أخلاقية وتحثنا في ذات الوقت لإيجاد قيمة كل ما هو أخلاقي بين صفحات الكتب، سيرة الخداع تعني بامتياز التاريخ الحقيقي لأية لعبة ممتعة خاطبت حلولها ابتسامة طفل واستمتع بالعجز حيالها موظف شركة الألعاب، سيرة الخداع هي خادم المصباح الذي رصع بذلة المشاهير بالنجوم.
المشاهد يستمتع بأي عمل مخادع ليكون أكثر ايجابية، الخداع يستقطب الجميع وينال استحسانهم، يدفعهم داخل الملعب لكشف أسرار اللعبة يستفز قدراتهم، يجرهم للتحدي، يتيح أمامهم فرص التفوق في لعبة لا تكون قواعد التفوق فيها دائماً من أجل حل اللغز.. فأحياناً يكتفي الفائز فيها بفضح طرق بناء اللعبة.
في العطلات الرسمية يرتاد الكثيرون مسارح الخدع البصرية طلباً من ممثل العرض خدعاً جديدة، الحاضر يغمض عينيه عن كواليس المسرح، فالفضول يكون محله البيت أو الحي أما هنا فوجوده لهدف بعينه، طلباً للخدعة لأنه يستمتع بذلك بعد أن ترك مجال تصديقه لها من عدمه أمام قاعة العرض، العارض يتفنن في إخفاء حيله وتقنينها ليقنع المشاهد بوجود الخدعة، المشاهد لا يعبأ بكشف الحقيقة لذا فليستعن العارض بكل حيل الفيزياء أو حتى استقطاب الجان لمشاركته كرنفال الخدع الأمر المهم أن يخرج المشاهد مخدوعاً.
يعتقد البعض وربما الكثير من صفوة القراء أن الرواية البوليسية تقع في المستويات الأدنى من الأدب (على المستوى الأدبي)، وعند البعض لا ترتبط بعلاقة بكل ما هو أدبي رغم أن الكتابة الروائية (غير بوليسية) وفي ظل ارتباطها بضرورة التجديد والتغيير عجزت عن استبدال أهم التقنيات في بناء الرواية البوليسية حيث يتعين على القارئ فك شفرة الرواية لمعرفة القاتل الحقيقي، إنها ببساطة عملية كسر التوقع عند القارئ حيث تقدم أحداث تشير إلى أفعال خادعة،فلا أظن بأن دان براون مثلا حقق أرباحه الخيالية بعيداً عن أساليب أجاثا كريستي المخادعة.
في ملاعب كرة القدم يرتبط الفن الكروي بمهارات المراوغة، حيث يتعين على اللاعب المهاري الاحتفاظ بالكرة عبر إيهام الخصم بحركة وهمية، في المقابل يحاول المدافع الصلب وفي لحظات معدودة كشف اللعبة المعدة، اللاعب المهاري لا يجازف بلعبة لا يتقنها فهو يعلم كل شيء عن إمكانياته الرشاقة – البنية – السرعة، المدافع شاهد المهاري في لقاءات سابقة ويعلم جيداً كل شيء عن طرقه للتخلص من الدفاع، المهاري لا يستهين بقدرة المدافع على انتزاع الكرة لذا يجب عليه فيما تبقى من اللحظة ابتكار خدعة جديدة للتخلص منه.. حوار رشيق لا يستمر لأكثر من لحظات بين المهاري مبتكر اللعبة الجديدة وبين المدافع الذي يجتهد لكشف الخدعة.
تتصدر الفكاهة «النكتة» الشعبية عادة مجالس الأصدقاء، النكتة تحتوي على إمكانيات كبيرة لفتح مجال غير معلن للتحدي بين الراوي والمتلقي، الاتفاق بينهما يكون ضمنياً للوصول إلى النهاية بشرط أن ينتزع الراوي ضحكة مستمعه، لذا يتوجب على الراوي الإبقاء على أسلحته حتى نهاية الجولة لخداع الطرف الآخر ومفاجأته بجملة أو حركة أو إيماءة، وربما جميعها بهدف استقطاب غريزته إلى حيث يعجز المستمع عن إخفاء انفعاله.