رائد وحش رائد وحش

أيها العالم.. صديقنا ورفيقنا وأخونا «جوزيه ساراماغو».. مات!!

هل مات جوزيه ساراماغو أم بروميثيوس؟؟

ترى كم بروميثيوس يحتاج هذا العالم ليتلقف شعلة النار ويواجه بها جبروت الطّغيان؟؟ وكم شعلة نار نحتاج لنوقف ليل الخراب الطّويل؟؟

مات الرجل الكبير وكان على العالم أن يعلن الحداد، وكان على البشر أن يعلنوا الحداد، وكان على اللغات أن تعلن الحداد..

مات الفلاح وصانع الأقفال والميكانيكي والكاتب الذي كتب بروح فلاّح وصانع أقفال وميكانيكي.. مات الرجل الذي جعل من الكتابة قضية، ودفع أثماناً باهظةً في سبيلها، من محاربة الكنيسة له بسبب روايته «الإنجيل كما يرويه المسيح»، إلى موقفه حيال ما يجري في فلسطين، إلى مواقفه المبدئية ضدّ العولمة وممثليها، وكل ذلك عبر روائعه الروائية التي حملت وهج الروح الإنسانية معنى ومبنى، وعبر مقالاته على مدونته، ونشاطه السياسيّ في بورتو أليغري والحزب الشيوعي البرتغالي.

مات الكاتب.. ولكن هذا لا يعني أن الفاشستيين سيكونون في دعة وسلام، لأنه ساهم في التأسيس لشريعة الحب محارباً شرائع ومشرّعي الكراهية، وبفضل لصوص النار أمثاله ستعود السماء التي شكلها بخار أنفاس المقهورين على مرّ التاريخ إلى ازرقاقها!!

مات المتشائم الكافكاوي ولا يزال العالم المحكوم بالاستبداد والاستغلال مشؤوماً، حيث كان يقول: «التّفاؤل شكل من أشكال الغباء.. أن يتفاءل المرء في أوقات كهذه ينمّ إما عن انعدام أي إحساس أو عن بلاهة فظيعة».. لكنّه ظلّ يدرك يقيناً أن نزعته التشاؤمية الضارية ستكون حجر أساس في جمهورية الأمل والسلام التي ساهم في لبنات كثيرة منها..

مات الثائر الذي كان يصرخ: «لن نغيّر الحياة ما لم نغيّر الحياة»، وكان يسعى إلى تغيير «الحياة» كما كل الثوار تماماً!!

فقدانه كبيرٌ لأنه كان يقف في ذروة لا يدانيه فيها أحد، أولاً لأنه الكاتب الذي ينطلق من مسؤوليات أخلاقية تجاه العالم الذي قادته الرأسمالية إلى تمزقات عنيفة في كيانه وروحه، ولأنه ظل وفياً لطبقته ملتزماً بهموم وقضايا المعذبين في الأرض، فأعماله الروائية ليست سوى تشريح عميق للعصر الراهن من أجل فهم الخلل وتشكيل رأي وموقف منه، موائماً ذلك مع أسئلة الحياة الأخرى: الهوية.. الدين.. التاريخ.. الحب..

رواياته التي تمثّل أبحاثاً في عماء العالم وفلتان عقله كما في «العمى»، أو في فضح زيف الديمقراطية الحديثة في «البصيرة»، وفي التعريض بسفالات عصر الاستهلاك في «الكهف» حيث تتحوّل الدنيا إلى مول عملاق، والعمل على تعرية بنيان البيروقراطية في «كلّ الأسماء».. كلّ ذلك جعل من هذا المهموم أخلاقياً ممثلاً لمكمّمي الأفواه في برلمان الحرية الكونيّ، وقد قال ذات مرّة: «أكتب الروايات لأنّي لا أستطيع كتابة الأبحاث».

الميزة الساراماغوية الثانية هي أسلوبه المميز الذي يربط جميع أعماله بخيط واحد، فكتاباته تقوم على نص الكتلة الذي يجمع الحوارات كلها ويلغي علامات الترقيم، لتصبح الرواية، في النهاية، جملة واحدة.

والميزة الثالثة هي انتماؤه إلى تصنيفات تعافها الحداثة الأدبية؛ الحكمة والالتزام!! لذا كان جوزيه ساراماغو نموذج الكاتب الذي تحتاج الحياة والبشرية إليه.. ولنتذكّر ما قاله في رواية «العمى»: «الأعجوبة الوحيدة التي في إمكاننا تحقيقها هي أن نبقى على قيد الحياة, أن نحافظ على هشاشة الحياة من يوم إلى آخر، كأن الحياة عمياء لا تعرف وجهتها. ولعلها فعلاً كذلك، لا تعرف».

وداعاً ساراماغو اليوم.. لكنك ستظل حاضراً وراسخاً إلى الأبد في ضمير الإنسانية الذي ساهمت في تنقيته قدر استطاعتك..