تفيد بإيه.. يا «ندم»؟!
حظي مسلسل «الندم»، للمخرج الليث حجو والكاتب حسن سامي يوسف، الذي يعرض في رمضان الحالي، بشعبية واسعة لدى الجمهور السوري، نظراً لطرحه مادة دسمة يتعطش السوريين منذ سنوات إلى نقاشها على اختلاف المنابر والمجالات، وهي ببساطة المأساة التي يعيشون، جذورها ومآلها. فهل استطاع المسلسل مقاربة هذا العنوان الكبير بالعمق الكافي في ثنايا عرضه؟
منذ اليوم الأول من الموسم الرمضاني الحالي يبحث قسم كبير من السوريين عن أكثر الأعمال التلفزيونية جدية وعمقاً لمتابعتها، وسط انتشار مسلسلات الكوميديا التجارية والأزياء والترف والإباحية غير المعلنة المنتجة لأغراض السوق الخليجية والعربية..
الجدية باتت مطلوبة بشدّة لدى أوساط السوريين التي تعاني من درجات عالية من الاغتراب، ومن غياب وتغييب مساحات نقاش التحولات السياسية والاجتماعية والثقافية التي شهدتها البلاد. الجمهور السوري متعطش بشدة لوجود أي عمل يقارب الكارثة التي يعيشها، ويخوض نقاشها باتجاهاتها وأبعادها كلها، ويقدم تجريداً وتحليلاً لما جرى وللمأساة التي تتواصل حتى الآن.
وسط هذه المعمعة برز اسم مسلسل «الندم»، ويشير عنوانه العام إلى ما يبحث عنه السوريين بالفعل، ولا نقصد بالعنوان كلمة «الندم» بقدر ما نقصد الإشكالية التي أراد المسلسل طرحها، والتي غالباً ما تظهر في الحلقات الأولى من أي مسلسل.
بين زمانين
الأعصاب مشدودة، والأذهان تترقب منذ الحلقات الأولى كيف ستمتلئ الفجوة بين زمانين، الزمان الأول: عام 2003 الذي يسوده، وفقاً لكاتب العمل، جوٌّ من الاستقرار والراحة مشوباً بالعديد من الإشارات المستقبلية المقلقة. الزمان الثاني: عامنا الذي نعيشه 2016، عام الحرب والخراب والانهيار. كيف سيجسر صنّاع الهوّة العمل بين الزمنين؟ وكم سيكون أمراً شيقاً ومثيراً معرفة تلك الإجابات والمعالجات.
كانت الحياة ملونة في الزمان الأول (2003)، تمضي الأيام في بيت أبو عبدو الغول، وهو بيئة العمل الأساسية، بكثير من الدعة والاستقرار، الأب (سلوم حداد) ثرياً ومحسناً، أدراجه مليئة بأكياس النقود التي يغدقها يمنة ويسرة على المحتاجين والبسطاء. بطل العمل الأساسي: عروة (محمود نصر)، الابن الأصغر والأكثر دلالاً لدى أبيه، بقية الأخوة عبد الكريم (باسم ياخور) وسهيل (أحمد الأحمد) وندى (رنا كرم).
لا ينغص هناء المعيشة سوى شيئان: مظلومية سهيل، أحد أبناء الغول، بسبب تفضيل أبيه أخاه عروة المثقف عليه، وهروبه خارج البلاد. وجشع عبد الكريم وحبه للمال، فيما عدا ذلك تستمر الحياة دون تعقيدات تذكر، طالما أن أكياس أبو عبدو الغول المليئة بمبالغ مادية وفيرة تلطف أعقد التناقضات.
في المقابل تمضي أيامنا الحالية (2016) قاتمة (بالأبيض والأسود)، الحرب وأحداثها تجتاح بفجاجة كل تفاصيل أيامنا، ولا مفرّ للكاتب الثري عروة، الابن الذي كان مدللاً في الزمان الأول، والذي فقد كل عائلته تقريباً، من مواجهة المأساة أينما أدار عينيه. هول المأساة ومفارقاتها يفتحان دروباً في الذاكرة: من أين جاء هذا كله؟ سؤال كبير يطرحه الكاتب على الدوام.
مراوحة
المشهدان الآنفان عن الزمانين القديم والجديد يتبلوران في الحلقات الأولى من العمل. بعدها يبقى «الندم» يراوح في مكانه، لا أحداث أو تطورات أو حتى مقولات، لتعكس أية نقلة نوعية في السياق الدرامي. لا وجود سوى لتفاصيل يومية، تظهر في خضمّها براعة المخرج (الليث حجو)، في إنقاذ العمل من إسهابات النص الزائدة، وإطالاته السردية المملة بقوة المشهد الإخراجي، ممزوجاً بأداء أفضل الطواقم الفنية والتقنية التي اعتدنا على إطلالاتها مع المخرج حجو.
ومع اقتراب العمل من حلقاته الأخيرة، باتت تبرز وبشكل أوضح إشكالات النص، والبناء الدرامي، لهذا العمل الذي تنطع لأصعب العناوين في رمضاننا هذا: مأساة السوريين. النص أظهر عجزاً في معالجة الأسئلة التي طرحها.
من أين جاء هذا كله؟
في إجابته عن سؤال: «من أين جاء هذا كله؟» عجزت إسقاطات شخصيات «الندم» عن أن تعكس العناصر الاجتماعية والسياسية لأزمتنا. أبو عبدو الغول، الرجل القوي المحسن صاحب الإرادة الطيبة والأخطاء العفوية والنادرة، هذه الشخصية إن وجدت لم تكن شخصية اجتماعية سائدة. كذلك ليس جوهر المشكلة في قدوم ورثة غير أمناء على آداب وأخلاقيات أسلافهم. وهنا الحديث يدور عن عبد الكريم أو عبدو والفارق الناشئ بينه وبين أبيه في النشاط الاقتصادي والحياة الاجتماعية.
الفساد كان أشد هولاً، الأزمة كانت متعددة الإحداثيات والمستويات. الجوع، وهو الطور الأول في الـ«كل هذا» الذي جاء، هو الظاهرة الأبرز والأسبق، فكيف تفاداه صاحب سؤال: «من أين جاء كل هذا؟»؟. الجائعون في «الندم» يظهرون وادعون هانئون في كنف أبو عبدو الغول ومكرماته السخية، على عكس نظرائهم في «الانتظار» للكاتب نفسه، رفقة نجيب نصير، الذين لم تنجهم الأعطيات ولا خطط الخلاص الفردي.