جنوبُ الشِّعر.. شمالُ الرِّواية
«لن يقولوا:كانت الأزمنة رديئة، بل سيقولون :لماذا صمت الشعراء».. قالها مرة بريخت لتغدو هذه المقولة ضوءاً خافتاً في نهاية نفق الشعر الذي لما تزل الرواية وغيرها من الفنون المعاصرة تحاول إخماد جذوته، ضوءا يسترشد به شاعر جنوبي بكل ما يحمل الجنوب من معاني الطبيعة البكر والناس غير الملوثين.. أتكلم هنا عن الجنوب كل الجنوب وبمعناه الإنساني في كل بقاع الدنيا، لكن عن الشعراء فإني أسمح لبوحي أن يخص الحديث عن شاعر يحاول ثني نفسه عن الظهور كي يبقى في ساحة الفعل الواعي ككل المبدعين الحقيقيين: فواز العاسمي شاعر من هؤلاء الذين يعتقدون بالشعر فنا راقيا، يحمل قيمة معرفية وحتى مستقبلية، لا تحتاج لكثير سجال، فَحَكَمَ على نفسه بالتوحد وانزوى في عش القصيدة.. ديوانان شعريان حصيلة ما أبدعه العاسمي، الأول «أشعار مفتوحة على مصراعيها» (صدر عن دار حوران في العام 2003)، أما ديوانه الثاني «سكان الجانب الآخر» (صدر عن دار الطليعة الجديدة في العام 2007).
في ديوانه الأول حاول العاسمي منذ البداية التمايز عن المبتذل والعادي في سوق الشعر الحداثي، معتمدا على قصيدة النثر شكلا، وعلى الحياة وما فيها من معاني أبدية موضوعا دائما وخيارا واعيا لأزمة الشاعر في نزوعه لكبح معيقات تطور بنى واقعه المحيط.. الحياة التي أعطت المرأة، موضوعه الأثير، رغم كل ما يعنيه هذا من اختراق للتابو والممنوع. من مجموعته الأولى أقتبس: «برزانة الأنبياء تقولين:/ احقن سُمَّكَ في صلب عظامي/رذذ خمرك عليّ/ اهرش جرب الصدور/بحجر بازلتي من ربانا/أصير لك!!».. من داخل بنية هذا الممنوع المعطَّل بعيدا عن فهمنا، يحاول العاسمي، وهو سليل تراث عربي أصيل في حياة العرب الثقافية من التمرد والصعلكة، أن يصنع قصيدة حداثية متجاوزاً من خلالها كل الأشكال الموروثة، فهو يحرق المراحل مستفيدا ربما من مكر التاريخ الذي يهدم ما بُني أو يبني على ما هُدِّمَ وسيُهدم!!! ما يلفت النظر حقا في شعر العاسمي وحراكه تلك النقلة، أو لأسميها دينامكية الشعر واستجابته للواقع، فبين مجموعته الأولى التي تغنى فيها بالحياة و بالمرأة، وبين مجموعته الثانية، وهي الأحدث، تغيرت الموضوعات وكذلك اللغة، فمن سلاسة ووضوح في الأولى، إلى وعي خاص والتزام أكبر بقضايا الساعة والأمة، لا «سكان الجانب الآخر» كُتبت بعد احتلال العراق، بينما الأولى مكتوبة وهو على مقاعد الدراسة الجامعية وفي عمر مبكر. إذاً تطورت أدوات العاسمي وموضوعاته ورؤاه الفكرية والشعرية في مجموعته الثانية لينحو باتجاه إغراق الشعر بلغة قاسية، زاجرة، صادمة.. تناسب المرحلة: «أقتبس/ تجردتِ الأرضُ من نبتها/ لما بدت حورانُ تغيب عن جسدي/ وبقلبٍ كافرٍ بالحياة/ انداحت تحت حوافر الخيول الشاهقة/ مع أنها كانت تتنفسني/ ما كان لوجهها ملامح من أشواق الرجال/ أو من غضبة العرب».. لو أنني أردت فعلا البحث عن قاسم مشترك بين المجموعتين لكان، وبدون مواربة، الشاعر نفسه، فبحسه الرفيع وانتمائه الخالص لأرضه ووطنه، استطاع خلق حالة شعرية مغرقة بواقعيتها، فلا اغتراب عند العاسمي على مستويي الموضوع واللغة، إذ أنه يصنع من المتاح فارقاً عظيماً أمام تسطيح الشعر وابتذاله الحالي في كثير من تجارب قصيدة النثر المحلية والعربية. أما الفارق الأكبر في صنعته فهو رد الاعتبار للشعر أمام غيره من الفنون، وهذا سيتأتى حتما بعد قراءة المجموعتين،حينها سنرفع جميعا القبعة للشعر، ولبعضٍ من الشعراء!!!