مطبات: عقد أخلاقي
الحادثة قد تبدو عادية، وقد يقول البعض إن الفاعل إنسان، والإنسان خطّاء بطبعه، وآخرون يأتون كعادتهم من وراء الظهر بسيف التبرير ويتهموننا بتكبير القضايا، والصيد في الماء العكر.
ربما تصح كل هذه الآراء، لكنني أرى فيه موقفاً كبيراً، وحادثة تعمم على السلوك، وتحديداً إن كان الفاعل مسؤولاً، لأن سلوك هذا الرجل تحت العين، وبمكانة المثل الذي يحتذى، على الأقل كما يرى نفسه، لا كما نراه نحن.
الخبر يقول إن مسؤولاً كبيراً، ويعتقد أنه بمرتبة محافظ أشعل سيجارته في أحد الاجتماعات، وذهب إلى أبعد من ذلك بأن أخرج من جيبه ألفي ليرة، وطلب أن تحضر الشرطة وتكتب ضبطاً بالحادثة، وبغض النظر لماذا فعل ذلك، وكيف ُيقرأ الموقف، والأسباب التي دعت هذا المسؤول لمثل تصرف هكذا.. الحادثة خرق لقانون، وتعال عليه، ومثال يحتذى في التعامل مع القانون.
القانون ليس مجرد ضابط ينظم الحياة كي لا تختلط، ولا لقبض ثمن المخالفات، وليس حبراً مجانياً، ولا يفصل على قياس البعض، وفضفاضاً على آخرين، وليس مجرد صورة لتجميل الحائط الفارغ، ولا تقليداً لآخرين كي نصور أنفسنا متحضرين، وملتحقين بالأمم.
القانون في روحه هو رغبة المجموع في حياة أفضل، متساوون أمام قوس قضائه، لا قامة تعتليه، ولا أخرى يدوسها من فوق، القانون هو أخلاقنا التي نضعها نصب أعين الجميع، ونحاسب على مرأى منهم، وتحت شمس المساواة.
الأمم لا تسن قوانينها لمجرد التباهي بها، ولا تجتهد في البحث عن قرارات تضبط الفوضى لتبني فوقها الخراب، فالقانون يستمد قوته من إيماننا به، ومن قدرته على أن يطال الجميع، ويعدل بينهم حتى في ظلمه.
الحادثة تفسر لماذا يستاء المواطن من وضع حزام الأمان، ولماذا لا يلتزم سائق سيارة الأجرة بالرقم الذي يظهر على العداد، وكيف ندوس زهور الحدائق لنعبرها من أقصر طريق، وكيف يرى الموظف في ورقة مالية حقاً لتمرير معاملة مواطن، ولماذا لا نحب الانتظام في رتل أمام فرن خبز، أو كوة البنك العقاري في أول الشهر، أو لدفع فاتورة هاتف أو كهرباء...ولماذا نسمي الأشياء عكس تسميتها، فالفوضوي شجاع، والملتزم (آدمي) ومسكين، والرشوة شطارة، والوظيفة لا تشبع دون (البراني)، والعلم مضيعة للوقت، والقانون أسر، والانفلات حياة، والأزعر رجل، والزمن غادر... هكذا نمرر أيامنا على ساعة العالم.
وفوق مخالفتنا الصريحة للقانون هناك الأمّر، نستطيع بقليل من التفسير الملتوي، أن نلوي عنق القانون كيفما شئنا، المقاهي والمطاعم والمحلات التي قالت أنها تضررت بقانون حظر التدخين وجدت فتواها، والفسحة السماوية التي يجب أن تصل إلى 70% ليكون المكان للمدخنين وجدنا لكن ليس إلى جهة السماء، المقاهي نزعت واجهاتنا الإسمنتية والزجاجية وأطلقتها للهواء من جهة الشارع، لم يتغير فيها سوى الواجهات، والمدخنون يمارسون حريتهم على باب القانون وليس تحت سقفه، أو فسحته السماوية.
السائق يدخن، بعيداً عن الشرطي، الراكب يدخن، الأراجيل مشرعة أمام العابرين، المقاهي والمحال والمطاعم صمتت عن شكواها، الأمكنة المخصصة للمدخنين في بعض دوائرنا مكان لتهرب الموظف، والتدخين حجة للغياب، أو رياضة للبحث عند المواطن المراجع..هكذا فهمنا القانون، وهكذا اعتدينا عليه.
في المحصلة لا قانون دون عقد أخلاقي، فالقانون لا تحميه قوة التطبيق فقط، بل الروح المؤمنة به، ولا العقوبة قادرة على الردع وحدها، ببساطة كم عدد السائقين الذين ليس لديهم نقاط على شهادات السوق، أو دون ثقوب، فالكاميرات كشفت عدد المخالفين المرعب، وإرادة هؤلاء في مخالفة القانون الذي يحمينا من الرعونة، وفي الوقت نفسه يكسر إجماعنا في احترامه.
القانون عقد أخلاقي.. نجمع عليه، فننجو من فوضانا.