رائد وحش رائد وحش

الثّورة وتأسيسُ الوعي الجديد

وهي تؤسّس أرضيّةً ومناخاً للحرية والكرامة عبر قوننةٍ سياسيّةٍ واقتصاديةٍ تتلاقى في المجتمع والوطن والحياة، فإنّ الثورة أيضاً تؤسّس وعياً موازياً، فردياً واجتماعيّاً، على صعيد الحياة الاجتماعية العامة، حيث يتجلى تأثيرها في نسف أنساق التفكير وأنماط السلوك، ولعلّ الخلاصة المفيدة تختصرها حكاية المواطن المصريّ الذي جاء يرشو موظّفاً فلم يكن من أمره إلاّ الزّجر بأنفة وكبرياء: كان هذا قبل 25 يناير..!!

إذاً.. ما كان قبل الثورة العربيّة التي دشنتها تونس الخضراء نهاية عام 2010 لا يمكن أن يكون بعدها، لا بل إنه لن يكون. الآن تجري تصفية شاملة لتاريخ العار والبؤس. ثمة زمنٌ قد انتهى مع الشرارة الأولى الّتي بدأت بجسد البوعزيزي، والذي لم يتسنّ له أن يعرف أنه كان «يدقّ جدران الخزّان» الذي طالما ظل يجأر بالصمت والخوف، وأنه طائر الفينيق الذي ولدت من رماده هذه الأمة ثانيةً.

ما يصحّ على الحياة يصحّ أيضاً على الفنون، بمختلف أشكالها، فهي أيضاً لا يمكن لها أن تستمر بما كانت عليه قبلها، فالثّورة العربيّة حين تنجز أهدافها الوطنيّة الكاملة، علماً أنها لا تزال قيد الإنجاز بسبب المحاولات الحثيثة لسحب البُسُط من تحتها من القوى المتضررة من هذا النهوض، والتي تسعى بكل قوتها على الكذب وحرفية التزييف ومواهب الخداع لتعتيم الرؤية وتعثير المسيرة.. هكذا ستستنهض الثورة ثقافةً جديرة بالهوية واللغة والروح في المكان الخارجة من صميم صميمه، فتنتهي تلك الحالة الفصاميّة، أو لا بد أن تنتهي، فكم من عمل فنيّ، قصيدةً أو لوحة أو مسرحيةً..، شعرنا بأنه لا يعنينا، وكأنّ صاحبه من عالم آخر..؟؟ وستموت اللغة الخشبية التي طوبت أزمنة الهزيمة.. الصحف الكاذبة ستخرس.. التاريخ سيُكتب كما يجب أن يُكتب.. الحق سيسطع من كل كلمة تقرؤها العين.. تلفزة «فصفصة البزر» وملء ساعات البث ستؤبن.. سينتهي عصر «روتانا» والمسلسلات التركية عصر الانسحاب من المشهد واللامبالاة بالعام.. وستسود ثقافة العمل والإخلاص بلغة ورؤى تليق بالنوء في حملهما.. سيكون كل شيء كما يجب أن يكون، وقتها، حين يكون المأمول ويحدث، سنكونُ ونحدثُ.

بينما نطالب بالحرية السياسية والكرامة الوطنية والعدالة الاجتماعية للبلاد والشعب، سنفعل الأمر ذاته في البيت والعائلة، فميزان الحياة لا يتعادل إلا بتجلي الكبير في الصغير، وتشكيل الصغير للكبير..

المعركة الخفية تحدث في الوعي، وتترسخ في الذاكرة التي تحميه.. المعركة الخفية لا تقل عن المعركة في الميدان، في الشارع، على الإنترنت.. وحين تنجز الثورات انتصاراتها الكاملة سيتكفّل هذا الوعي الإنساني الاجتماعي الجديد بتحصين فكرة الثورة إلى أبد الآبدين. 

الزّواج الذي حدث في «ميدان التحرير» سيكون معياراً، وبناءً عليه ستُصفى عادة فصل الأعراس بين الذكور والإناث (وهي جزء من نسق كامل يحتاج إلى غربلة ثورية)، فالفرح واحد وللجميع، ولا معنى له إن لم يكن بالجميع.. الشباب الجديد الحر الذي تسلّح بثقافة العصر سيكون أنموذجاً يحتذى لدى السواد الأعظم من شبابنا المسحوقين، ووقتها ستتوارى من على المنصة الاجتماعية كل العادات التي بليت وأبلت معها النفوس.