محورا الصورة مقلوبة..!
أيام زمان في بداية الستينات، كنا نقف صباحاً في باحة المدرسة، ننشد بعض الأناشيد الوطنية كنشيد الجزائر ونشيد موطني وغيرها.. ونختم بالنشيد الوطني، وكانت هي بداية زادنا الروحي الوطني والبصيرة والمعرفة السياسية للمرحلة اللاحقة!
كما تلقينا في المرحلة الابتدائية والإعدادية كمّاً من المعارف والمعلومات، أو من خلال قراءاتنا عن جغرافيا العالم وثورات الشعوب كثورة العبيد بقيادة سبارتاكوس والثورة الفرنسية وثورة أكتوبر الاشتراكية والانتصار على النازية، ونضال شعوب المنطقة ضد الاستعمار العثماني وشهداء 6 أيار من السوريين واللبنانيين، وضدّ الاستعمار الأوربي في سورية وأبطاله أمثال يوسف العظمة وسلطان الأطرش والأشمر وهنانو وصالح العلي ورمضان شلاش وغيرهم، والانقلابات والصراع على السلطة والعداء لأمريكا والصهيونية والرجعية وغيرها، كان من يعرفها في العقود السابقة يعتبر عالماً.
تكوّن الوعي
بعض هذه المعارف أزاح كثيراً من الأوهام والخرافات ككيفية تشكل الغيوم والأمطار وهطولها. والمجموعة الشمسية ودوران الأرض حول الشمس وكرويتها وحدوث الليل والنهار والفصول الأربعة، التي ما زال البعض ينكرها من التكفيريين والفاشيين، ومن العلوم والتجارب المهمة التي تركت أثراً مهماً أيضاً، تجربة الشمعة والمرآة التي تمثل كيفية تلقي العينين للصورة المعكوسة والمقلوبة التي تقع على الشبكية، وكيف يقوم الدماغ بالمطابقة وتعديل الصورة وتحليلها وتفسيرها، وبعضها كان سبباً لانخراطنا بالعمل السياسي في المرحلة الثانوية وتكون قناعاتنا بالفكر العلمي والشيوعي، وإقبالنا على الثقافة الوطنية والتقدمية الثورية والعالمية فتكونت لدينا صورة حقيقية غير مقلوبة عن حركة التاريخ الدائمة والمتصاعدة وتطور المجتمعات البشرية، عززت طموحنا للتغيير وأن الأحلام يمكن أن تكون واقعاً وليس مستحيلاً.
المهزومون داخلياً..
من الطبيعي أن يصل البعض إلى مرحلةٍ يصبحون فيها غير قادرين على العطاء والاستمرار فينسحبون، والبعض توقفوا عند لحظة رؤية الصورة الأولى فأصابهم الجمود، أو العدمية، والبعض الآخر توقف عند الصورة المقلوبة بعد التطورات الأخيرة كانهيار الاتحاد السوفييتي، وهيمنة القطب الامبريالي الأمريكي والضخ الإعلامي الكبير في قلب الحقائق وتشويه التاريخ، متجاهلين أن العلم والحياة والطبيعة لا تقبل القطب الواحد، وأن حركة التاريخ لن تتوقف ومنهم من انقلب رأساً على عقب وصاروا يكيلون الاتهامات بالـ (الكيلو) أو تحولوا إلى منظرين في التّطهُر من ماضيهم، واعتبروه رجساً، وأنهم عَبَروا من برزخ الماء المالح إلى برزخ الماء الحلو، وبات يروي روايات كشاهد عيان وحيدٍ وحصري على طريقة قناتي العربية والجزيرة، فأصبحت الخيانة لديهم وجهة نظر في أحسن الأحوال، هذا إن لم يفاخروا فيها، وأصبح قبض العطايا من أعداء الأمس الإمبرياليين هدفاً ووسيلة، وتجاهلوا جرائمهم بحق البشرية ككل بدءاً من تجارة العبيد إلى سلخ رؤوس الهنود الحمر إلى تدمير أفغانستان ويوغسلافيا والعراق وليبيا، وصولاً إلى ما يفعلونه في سورية، وصاروا أصدقاء لهم ومسوقين ودعاةً دينيين وتحالفوا مع الليبراليين والظلاميين والتكفيريين وحتى الفاشيين وكل من هم أعداء الفكر العلمي واليساري والشيوعي، واعتبروهم أنصار الحرية والعدالة، ..
المواطن المطعون في كرامته ولقمته!
لعل ما يثير السخرية أمام ذلك كله، أنهم لا يريدون رؤية تغير موازين القوى العالمي والأزمة الرأسمالية التي تفعل فعلها عالمياً وإقليمياً وداخلياً، ولا حركة الشعوب وبروزها كقطب مهم، لا هم ولا النظام وكلهم يتحدثون باسم المواطن المطعون في لقمته وكرامته يومياً، ويضعون العصي أمام عجلات طموحه في التغيير، بينما هم يجرون عربة أعداء الوطن كمن جروا عربة غورو، وهم بذلك لا يختلفون عن قوى النهب والفساد في ممارساتهم وادعاءاتهم ويتباكون بدموعٍ كدموع التماسيح، ويبيعون الآهات في الساحات وعلى الصفحات وفي قنوات البترودولار، ويقيمون في عواصمها في فنادق النجوم الخمس، ويساوون بين الجلاد والضحية، أو كإخوة يوسف يلقون الشعب السوري في جب الحرب تحت تبريرات ومسميات متعددة، وهم يحملون قميصه كقميص عثمان، مطالبين بقتلته وهم من ساهم في قتله، بينما الفقراء والمسحوقون تسيل دماءهم كل يوم، أو باتوا مهجرين ومشردين بعد أن سرقت ودمرت بيوتهم وممتلكاتهم..!
الصورة والشمعة المقلوبة أمام المرآة، يراها حقيقةً من يملك وعياً ومعرفةً علمية ويقرؤون إحداثيات التغيير، كما يحس بها الناس الفقراء نتيجة معاناتهم وحاجتهم وبؤسهم.. وهم من سيحقق المطابقة الفعلية بين المعرفة والواقع وليس من أوهام تُروجُ لهم هنا وهناك..!