أرسطو.. عبقرية ملهمة
أعلن عالم الآثار اليوناني كوستاس سيسمانيدس، الخميس 26 أيار2016، العثور على قبر الفيلسوف اليوناني أرسطو، بعد عشرين عاماً من التنقيب في «هالكيديكي» داخل مقاطعة «فوريا إلادا» اليونانية. وأوضح سيسمانيدس، أنه وفريقه البحثي، قد عثروا على القبر الذي يبلغ عمره 2400 عام.
وقد تم اكتشاف المنطقة الأثرية التي يوجد بها قبر أرسطو، عام 1996، وتقع على منحدرات الطرف الشمالي من مدينة «ستاجيرا»، التي ولد فيها الفيلسوف اليوناني.
عرفت أثينا نشاطاً فكرياً وفلسفياً كبيراً بفضل الموقع الجغرافي والنشاط التجاري ونظامها السياسي آنذاك. يؤكد ول ديورانت :«كانت أثينا الباب الذي يخرج منه اليونانيون إلى مدن آسيا الصغرى، وأصبحت إحدى المدن التجارية العظيمة في العالم القديم، وتحولت إلى سوق كبيرة وميناء ومكان اجتماع الرجال من مختلف الأجناس والعادات والمذاهب وحملت خلافاتهم واتصالاتهم ومنافساتهم إلى أثينا التحليل والتفكير.. وبالتدريج تطور التجار بالعلم، وتطور الحساب بتعقيد التبادل التجاري، وتطور الفلك بزيادة مخاطر الملاحة، وقدمت الثروة المتزايدة والفراغ والراحة والأمن الشروط اللازمة في البحث والتأمل والفكر».
تأثرت الفلسفة اليونانية بعوامل مختلفة تاريخية واقتصادية وسياسية وجغرافية وفكرية، كونت المناخ الفكري لروادها ومفكريها. بين تلامذة أفلاطون، برز المفكر العبقري أرسطو(384-322 ق.م) الذي وضع مذهباً فلسفياً يعتبر أحد أهم دعائم الصرح الفلسفي اليوناني.
ولد أرسطو في مدينة «ستاجيرا»، وتلقى علومه في أكاديمية أفلاطون، حيث تحول من تلميذ إلى مفكر مستقل. عهد إليه بتربية الإسكندر ابن الإمبراطور فيليب المقدوني. شهد أرسطو عصر انحطاط النظام الديمقراطي في أثينا وغيرها من المدن اليونانية. بعد وفاة أفلاطون، غادر أثينا واستقر في آسيا الصغرى، وبعد عودته إلى أثينا أسس مدرسة سميت باللوقيوم Lyceum ، قاد أرسطو فيها نشاطاً واسعاً شمل تنظيم وتنسيق المعارف الفلسفية والعلمية وإنشاء عدد من الفروع الجديدة، على رأسها علم المنطق.
بذور «مادية»!
كان أرسطو فيلسوفاً موسوعياً، غزير التأليف، اشتغل في مجالات عدة منها: المنطق وعلم النفس ونظرية المعرفة والوجود والفلك والطبيعة وعلم الحيوان والاقتصاد السياسي والسياسة والأخلاق والتربية والخطابة وعلم الجمال، وعرض أفكاره من خلال الحوار مع وجهات النظر التي حفلت بها أدبيات عصره وتناول بالبحث والنقد آراء معلمه أفلاطون والذريين والفيثاغوريين...إلخ. وعن نقده لنظرية «المثل» الأفلاطونية يؤكد لينين قائلاً: «لقد تجاوز نقد أرسطو لنظرية «المثل» كونه نقداً لمثالية أفلاطون، ليصبح نقداً للمثالية عامة..». إذ ينطلق أرسطو في نظريته عن المعرفة من التسليم بوجود الواقع الموضوعي بشكل مستقل عن الذات وبأن أحاسيس الإنسان انعكاس لأشياء العالم.
«المنطق» منهجياً!
كان أرسطو أول فيلسوف يوناني وصلتنا منه مؤلفات تعالج قضايا المنطق بشكل منهجي منظم. إذ يعتبر أرسطو المنطق، نظرية البرهان وعلم دراسة أشكال التفكير الضرورية للمعرفة. ويرى أن العلاقات القائمة بين الأفكار تعكس الروابط الموجودة وجوداً موضوعياً.
وبما أن إحدى القضايا الرئيسية في فلسفة أرسطو عن الوجود هي مسألة علاقة العام بالخاص، وهي تعتبر إحدى مسائل الديالكتيك، فإن منطق أرسطو، يطرح أيضاً قضايا الديالكتيك، حيث يعتبر العلاقة القائمة بين الأفكار علاقات أو تحديدات الوجود، وهنا يقول لينين: «إن المنطق الموضوعي عند أرسطو يتشابك دوماً مع الذاتي، مع أن الظاهر منه هو الموضوعي دائماً، وهو، في كل خطوة يخطوها، يطرح دائماً قضية الديالكتيك بالذات» ويتابع لينين: «غير أنه نظراً للعلاقة الوثيقة بين منطق أرسطو ومذهبه في الوجود، فقد انعكست أخطاء فهمه لديالكتيك العام والخاص على المنطق».
ليس المنطق عند أرسطو علماً مستقلاً، بل آلة (أورغانون Organon ) لجميع العلوم وهو يسمي المنطق تحليلاً.
مفاهيم أساسية
ليس أرسطو واضع علم المنطق فحسب بل وعلم النشاط النفسي أيضاً، وتعتبر رسالته في النفس من أهم مؤلفاته. يتناول فيها بالبحث مشكلة النفس، وظاهرتي الإدراك والذاكرة.
واهتم أرسطو بالأخلاق خاصة، ويشكل مفهوم «الوسط» المفهوم المركزي في فلسفة الأخلاق عنده، وهو يعني عنده القدرة على التوجه الصحيح وعلى اختيار السلوك الملائم. إن الإنسان الفاضل في رأي أرسطو يختار الوسط دوماً، إذ أن الفضيلة وسط بين رذيلتين، ففضيلة الكرم وسط بين التبذير والبخل والشجاعة وسط بين التهور والجبن ..الخ. أما في الأمور الحسنة فلا يكفي الأخذ بالوسط منها، بل بالأحسن إطلاقاً. ويقسم أرسطو الفضائل إلى خلقية وعقلية، إن الهدف الأصلي لحياة الإنسان عنده هو السعادة.
آراءه السياسية والاجتماعية
طرح أرسطو في معرض دراسته لظواهر الحياة الاجتماعية والسياسية، عدداً من الأفكار العميقة القيمة، وقد أشار ماركس إلى أن أرسطو، بالإضافة إلى تحليله لظواهر الطبيعة والمجتمع وأشكال الفكر، كان أول من درس شكل القيمة، وبالرغم من أن العلاقات العبودية القائمة آنذاك حجبت عن الفيلسوف إمكانية رؤية الجوهر الحقيقي للظواهر الاقتصادية فإنه استطاع مع ذلك أن يرى القيمة التبادلية للسلع تعبيراً عن تساوي قيمتها.
ويرى أرسطو أن علم السياسة هو علم السعادة الجماعية، وأن وظيفة الدولة هي أن تقيم مجتمعاً يحقق أعظم سعادة لأكبر عدد فالدولة هي نتاج طبيعي، لأن «الإنسان بطبيعته حيوان سياسي»، أي أن غرائزه تؤدي به إلى الاجتماع مع غيره. و«الدولة سابقة بطبيعتها على الأسرة، وعلى الفرد»، ذلك أن الإنسان كما نعرفه يولد في مجتمع منظم من قبل يشكله على صورته. وقد اعتمد أرسطو في آرائه عن الدولة، على دراسة مادة ضخمة جمعها تلامذته من دساتير 158 من المدن اليونانية. وقد عثر على هذه الدساتير «دستور أثينا» عام 1890.
لا يمكن للذاكرة العلمية والفكرية للبشرية أن تنسى ما قدمه أرسطو، الذي لم تكن عبقريته المتجلية في فلسفته وفكره، سوى انعكاس لأزمات عصره وتناقضاته، إضافة إلى مستوى التطور الذي وصل إليه.