أزهار الشر

خلال التسعينيات.. ومع مطلع الألفية الثانية، تتدافع أمواج الليبرالية الجديدة في العالم بجنون عارم، وتصيب بآثارها حتى تلك البلدان التي تعتبر نفسها محافظة كإيران مثلاً.  يخوض المجتمع الإيراني صراعاً مستتراً في بداية تلك المرحلة، سرعان ما يظهر على  جميع المستويات اجتماعياً وسياسياً وثقافياً.

«أزهار الشر» الفيلم التسجيلي الطويل الأول، للمخرجة الإيرانية «جلنار فريد» يرصد تلك التحولات، ويقدم موقفاً واضحاً منها بجرأة وعمق خاص جداً. تبدأ سيرة الفيلم من المكتبة الوطنية، حيث تستعير المخرجة، ألبومات فيديو، تصور شوارع العاصمة طهران وحياتها اليومية في نهاية الثمانينيات، وبعد صمت يرن السؤال المتكرر: يا إلهي، كيف أمكن لمدينتنا أن تعادينا وتطردنا بهذه القسوة؟! لتنطلق بعدها في شوارع المدينة الحديثة، مصورة الحياة الجديدة بكاميرتها الخاصة، وراوية بصوتها، رؤيتها للتغيرات، يرافقها جمهور متطوع عالي الحماس والجلبة.

 بمهنية فنية عالية تعرض المخرجة فلاشاتها، بين مرحلتين مختلفتين تماماً، عبر تقطيع (بصري _ سمعي) مدهش، تتناوب فيه المقاطع، من محفوظات الأرشيف نهاية الثمانينات إلى التصوير الحي للمخرجة عام 2002، سنة إنتاج الفيلم. وهكذا تتحرك المخرجة وفريقٌها، من شارع إلى شارع، ومن ساحة إلى أخرى، وبتحركهم  يتحرك الزمن بسلاسة عجيبة، يصاحبهم باستمرار صوت المخرجة في سردها، الذي يتداخل مع تعليقات الجمهور الساخرة.       الضاحية الواسعة شمال العاصمة أصبحت منطقة تجارية، تسكنها الأبنية الشاهقة لشركات أسست حديثاً، لكنها للمفارقة، مزنرة بأحزمة سكن عشوائي.

السوق الشعبية القديمة في قلب العاصمة طهران استبدلت بخمسة « مولات « عملاقة تحاكي الطراز الغربي، مع تحذيرات واضحة بعدم اقتراب الفقراء..!!  وكراج القرى السابق، أصبح ساحة لمعارض السيارات الغربية والآسيوية الحديثة. أرصفة  كان يشغلها باعة شعبيون.. تحل محلها صفوف من محلات الوجبات السريعة بعلامات تجارية محلية الصنع - يتدخل صوت المخرجة بملاحظة سريعة: «الحكومة منعت استقدام العلامات التجارية العالمية فيما المستثمرون أجانب مع شركاء محليين..!!».

تتعاقب المشاهد وتتداخل ويواصل الفريق تجواله وأسئلته، بسخرية مرة، تقلد المخرجة بصوتها اقتصادياً حداثوياً، يتحدث بزهو عن نجاح المرحلة الأولى من عملية الانفتاح،  وعن قوانين الاستثمار الحديثة التي ستقر قريباً وتنقل الوطن إلى القرن الجديد ... وبخفة تنادي على أحد المارة ليصورها..  في مقطع ساخر تقلد فيه سياسياً  ليبرالياً معروفاً، يفرك عينيه باستمرار، ويتكلم برطانة عن المسقبل الزاهي، الذي ينتظر أجيال الشباب (تعليم وعمل وسكن .......) ثم يدعوهم الى تأييده في الانتخابات القادمة...!!

وعلى هذا النحو، يتصاعد إيقاع العمل، وصولاً إلى المقطع الذي اسُتوحي منه اسم  الفيلم، في حي المخرجة الشعبي القديم، الحي الذي طردت وأهلها منه، بعد استملاكه لتبنى مكانه مساكن حديثة. تقطع المخرجة وفريقها الشارع المعبد حديثاً،  يلوحون بأيديهم، تتوقف السيارات، تواجه المخرجة الكاميرا وتقول: «اسمي جلنار.. وهو نوع من الزهور، هنا كان بيتي.. وعند تلك الزاوية كان ثمة دكان صغير للزهور».  تتغير زاوية الكاميرا.. ثم تتسع لنشاهد واجهة محلات حديثة، تعلوها يافطة مزركشة مع عبارة: أزهار الحب، ويافطة أخرى: الشركة الصينية للأزهار والزيوت العطرية..!! هل تشعرون بما أشعر !!كم سنخسر بعد؟ ».

بقي أن نشير أن «أزهار الشر» هو ديوان شعر للشاعر الفرنسي المعروف  بودلير، وهذا سبب إضافي لاسم الفيلم، لأن أستاذ المخرجة  في الأدب الفرنسي، كان يحب ديوان «أزهار الشر» كثيراً،  وكان من أشد دعاة الانفتاح والخصخصة، انظروا الى أوروبا يا أبنائي.