طوابير
إذا ما أراد شخصٌ ما أن يؤلف قاموساً بأكثر الكلمات استخداماً وشيوعاً على لسان السوريين اليوم، ستكون مفردة «طابور» من أولى المفردات التي تُخطّ فيه كما لو أنها تزاحم كلمات أخرى في طابور الأبجدية!
والطابور هو أي تجمع بشري يزيد عن اثنين، يقف أحدهما خلف آخر! ويكفي الناس اليوم أن يروا طابوراً قيد التشكل حتى ينخرطوا فيه دون الحاجة للسؤال عن طبيعته.
وأنواع الطوابير لا تتباين فقط حسب السلع التي يصطف الناس للحصول عليها، بل تختلف في تفاصيل أخرى كثيرة:
فالانتظار ضمن رتلٍ للحصول على الخبز يختلف تماماً عن الانتظار لملء 25 ليتراً من المازوت! إذ أن رائحة الخبز التي تخرج من شباك الفرن تطمئن المنتظرين، وتساعدهم على تحمل البرد وتعب الوقوف الطويل، وتحفز خيالهم لتذكر خبز جداتهم، وحقول القمح، أو الوجبة التي سيستمتع بها أطفالهم حينما يعودون إلى المنزل في النهاية وهو ما قد يخفف عنهم قليلاً ، ويخلق أملاً بأن الانتظار سيثمر أرغفة خبز طازجة ودافئة. كما أن صوت العربة الحديدية التي تحمل على رفوفها أكياس الخبز المكدسة يؤذن باقتراب النهاية.
للمنتظرين على شباك الفرن أحاديثهم وإشاعاتهم الخاصة: يتناقلون أخبار المواسم الزراعية، ويكونون صداقات وأحلافاً تنتهي بمجرد انتهاء الانتظار. بينما تتحدث النساء عن وجبات الغداء وأسعار الخضار وهموم الأطفال.
ولطابور الخبز أعداؤه أيضاً: بعض رجالات الأمن والشرطة الذين يحاولون تجاوزه كي يجلبوا الخبز لل»معلم» ، أو بعض هواة التمثيل ممن يبتدعون قصصاً من أمثال»أمي مريضة» أو «تركت أطفالي يبكون في البيت من الجوع» كي يستعطفوا الناس ويأخذوا حصتهم من الخبز بصورة أسرع. أو النساء اللاتي يتذرعن بعدم قدرتهن على الانتظار ، ويستخدمن عيونهن اللامعة لكسب تعاطف الرجال. وطابور الرجال غالباً ما يكون منتظماً مستقيماً، بينما يأخذ طابور النساء شكل الكتلة البشرية التي لا يستطيع المرء تحدد بدايتها من نهايتها، بل قد يميز يداً هناك وخصلة شعر هنا، أو عباءة هناك، وطفلاً أضاع أمه هنا !!
أما الانتظار ضمن طابور المازوت فهو أشد وطأة وألماً، لأنه مرتبطٌ بالبرد وتعطّل الأعمال، ولأن رائحة المازوت الواخزة والبقع اللزجة التي تلتصق بمسام الجلد أو تمتصها أقمشة الملابس، تبقى آثراً ملموساً لتجربة الانتظار تلك. و المعارك هناك أكثر حدة وخطراً إذا ما وقعت، لأن المواطنين يستميتون في الدفاع عن هذا السائل الثمين بعد أن استطاعوا تحصيله !!
وهناك يحدث أحياناً، بعد أن يطول زمن الانتظار، أن يترك الناس أوعية المازوت الفارغة بعد أن يرتبوها في صف منظم ليتحركوا قليلاً في أرجاء المكان، بينما تنتظر الأوعية وحدها أن تُملأ .. هو مشهد يثير الحزن بالرغم مما يكتنفه من سخرية: كما لو أن تلك الأوعية الفارغة شخصيات اعتبارية، مهمة بذاتها .. أما الناس - أصحابها- فهم مجرد وسيلة تنقلها أو ظلٍ باهت لها. فإذا سألت أحدهم من أنت قد يجيبك : أنا صاحب الوعاء الأبيض رقم 13 !!