كيف يحزن السوريون ؟
لا بد أن ضغط الأشهر الماضية كان قد تراكم داخل نفس (ديانا 22 عاماً) دون أن تدري ذلك حقاً، ظنت أنها فقدت أي صلةً مع ما يحدث حولها في البلاد، توقفت شيئاً فشيئاً عن مشاهدة الأخبار، وبدأت تنسحب بهدوء من النقاشات والأحاديث السياسية التي يخوضها الأهل والأصدقاء.. كانت قد ضاقت ذرعاً بمحاولاتها إيجاد اسمٍ لموقفها السياسي.
بعد ذلك بفترة اضطرت ديانا أن تجري عمليةً جراحية، وفي الوقت الذي بدأت تستعيد فيه وعيها بعد تلاشي المخدر، بدأ سيل الكلام ينهمر دون توقف، كانت تهذي وتتمتم وتبكي، تردد بعضاً من هتافات الشارع التي ظنت أنها لم تعنها من قبل، تبرر وتشرح وتفسر .. هناك كانت سورية مختبأة تحت طبقة الوعي الرقيقة..
كان ( حسن 34 عاماً) يطالع كعادته صفحات الفيسبوك صباحاً، تمر أمامه الصور والكلمات دون أن يستوقفه أي منها. كان قد شاهد حتى الآن – وهو الفنان التشكيلي- آلاف الصور والتصميمات واللوحات عما يجري في البلاد، وكلما كانت الصور تزداد قسوةً، كانت تفقد قدرتها على شد انتباهه أو حمله على التأثر .. صورةٌ واحدةٌ استوقفته ذاك اليوم، لم تكن استثنائيةً على الإطلاق، ولم تحتو أية قطرة دمٍ واحدة . كانت صورةً فوتوغرافيةً لطفلٍ صغير في أحد مخيمات اللاجئين خارج الحدود السورية. الطفل يرتدي حقيبةً مدرسية كبيرة تثقل ظهره الصغير، لا يظهر وجه الطفل أو ملامحه. إلا أن طريقته في المشي على الأرض المبللة بفعل الشتاء عكست فرحه بمجرد التظاهر أنه ذاهبٌ إلى المدرسة .. اجتاحت حسن نوبة بكاء لم يستطع ايقافها..
تننقلت (هند 46عاماً) طوال اليوم بين المدن والقرى المتاخمة لمدينتها، كانت منشغلة بتأمين سللٍ غذائية للعائلات النازحة من مناطق الخطر، و أدوية الضغط والقلب لكبار السن، اهتمت بالأطفال، سمعت هموم وآلام الأمهات. شعرت بنفسها عاجزة وبدا لها أن الحزن لا ينتهي، فكلما كانت تفرغ من تقديم المساعدة المطلوبة لمجموعة، تجد عشرات المجموعات الأخرى التي تنتظر المزيد.. التقت عائلات مع أولادٍ صغار اضطروا للعيش في زريبة للحيوانات لأن لا مكان آخر يلجؤون إليه .. وفي المساء وبينما كانت هند تجلس وسط عائلتها المنشغلة بمشاهدة التلفاز .. بدأ جسدها كلها يرتجف، كانت عاجزة عن الكلام أو حتى البكاء ..
كان الصوت صاخباً: ضحكاتٌ تختلط بأصوات ارتطام الصحون والكؤوس، الجميع يحاول التظاهر بألا شيء خارج حدود تلك الغرفة .. بدا الكل سعيداً مطمئناً .. وصدح صوتُ فتاة بالغناء «عالالا ولالا ليش الزعل يا خالة .. « ..وعندما غنت الفتاة مقطع « والله لعبي الجرة من ميتك ياللعاصي ..» صمت الجميع كما لو أنهم تذكروا فجأة شيئاً كانوا قد نسوه .. تذكروا العاصي وحماة .. تذكروا الموت والدمار الذي ينتظرهم خارجاً .. كم من مراتٍ استمعوا إلى تلك الأغنية.. ولم يعلموا قط أن كل ذلك الألم قد يختبئ هناك خلف ذلك اللحن الجميل
هكذا يحزن السوريون اليوم .. تماماً في الوقت الذي يظنون فيه أنهم فقدوا أية قدرة على التأثر أو التعاطف .. وهؤلاء الأشخاص كانوا محظوظين –ربما- لأنهم حظوا بفراغٍ صغير سمح للحزن بالعبور .. إلا أن آخرين كثيرين لما يتمكنوا من ذلك، وما زال حزنهم يتراكم .. ترى كيف يحزن الطفل ذو الحقيبة الكبيرة؟ وكيف تحزن العائلة التي تسكن زريبة الحيوانات؟ أو كيف يحزن سكان منطقة نهر العاصي؟؟.