النحات إبراهيم العواد.. الحياة ليست رمادية!!

الفن ليس مقصوداً لذاته فهو منتج وكلمة فن فارغة لا تعني شيئا إذا لم ترتبط بمنتج، وكذلك الثقافة كلمة فضفاضة لا تعني شيئاً دون منتج مقرون، إذ جرى تعويم الكثير من الناس الذين أصبحوا أصحاب قرارات، وعندما بدأت الأزمة تركوا البلاد وهربوا، من استفاد من الواقع السابق أخلى مسؤوليته عندما صارت البلاد على المحك.. هناك افتقاد للمرجعية، متى سنستطيع إعادة إنتاج قامات مثل فاتح المدرس ومحمود حماد؟...

لقد كسرت دورة الإنتاج في ملتقيات النحت في السنوات العشر الأخيرة بغزارة قدم الكثير، وكان الغاية منها الإنتاج وليس ارتقاء السوية الثقافية طبعا يوجد أسماء وأعمال معينة ترفع لها القبعات كما يقال ولكن %90 منها هي اجترار أو إفراط بالتجريد لأنه يوجد عوز بالمعرفة، وإلا لماذا الهرب إلى التجريد الزائد وهو ليس من ثقافتي.. صار هناك إفراط النحات ذاته يعمل في كل سنة ملتقيين أو ثلاثة ويجتر نفسه، دون مرجعية تقييم أو ناقد تشكيلي له صلاحية النقد ليضع إصبعه على الجرح، بل يطرح أن كل منتج جيد لأننا لا نستطيع النقد، مثل حوارات التلفزيون، المحاور يحكي كلاما مبهما ولا يرد عليه او يناقش فيطريه، وهكذا يعوم مصطلح فارغ، وهذا ينطبق على الأدب والثقافة والسياسة والتشكيل والموسيقا وغيره من الثمانينيات إلى بداية الأزمة تعومت أسماء لا تمثل أحداً تحتاج إلى إعادة تأهيل .

هل ثقافة الصورة طارئة علينا؟

أنا اكتب والخاطرة هي صورة، نحن ننتمي إلى شعوب ثقافة الكلمة، لكن أين القراءة والكتابة . حاولت مع أكثر من فعالية لنعمل شيئاً ما ونلون المدرسة، ونخرجها من اللون الرمادي ونخلق جيلاً يقتنع باللون فنحن نعيش للأسف الشديد نتائج وإفرازات المرحلة الرمادية نتغنى بمدينة الياسمين والجوري والغوطة بينما اللون السائد هو الرمادي. البنايات والمدارس والمستشفيات والدوائر الحكومية وحتى البيوت كلها رمادية، وفنياً إذا خلطنا كل الألوان مع بعضها ننتج الرمادي، فصار القرار رمادياً لأن الذاكرة البصرية رمادية، لا يميز الناس بين الأحمر القاني والفاتح وهذا يصنع اتكالية ويصبح الخيار السياسي رمادياً، يجب أن ألون المجتمع حتى أعيد صياغة المشهد والفكر وأقبل باللون الآخر، فالرمادي غطى المشهد وتصبح الخيارات غير صريحة وغير صحيحة بالمستقبل والرمادي يحمل كل شيء فلا يوجد وضوح إذ لم ننشئ على الوضوح اللوني.

درست في ألمانيا وعملت للأطفال وأنا من بيئة فلاحية فقيرة وعائلة كبيرة عاش بيننا الكتاب والحوار الذي أنتج عمارة وشعراً وفنوناً، كنا مقتنعين بالاطلاع على ألوان كثيرة في الحياة، بدأت الرسم في ألمانيا ثم ورشة عمل للأطفال مما أنتج الفكرة فأصبحت مشروعي الأساسي قدمت خلال 16 سنة الفن للطفل مجاناً وعندما بدأت بالمشروع دعوت فعاليات عديدة ولم يأت أحد والآن أحاول ترخيص غاليري للطفل، أسميه الفنان الصغير ليعرض فنه مثل الكبار دون توجيه فكري بإطلاق العنان لفكره ومعرفته لتطوير أدواته المتواضعة باستخدام الحوار معه ومعاملته بندية، والخروج من رمادية المرحلة السابقة، الرمادي هو أهم أسباب التوتر في العالم ويولد العنف فهناك نظام يهدف لتعويم الرمادي ويفقد الإنسان قيمته لأنه لم يعد لديه خيارات ونحن إفرازات تلك المرحلة الرمادية الطويلة حيث انحصر الأدب والفن والشعر بأسماء معينة أما الأسماء النوعية فهاجرت أو انكفأت في بيتها 

وماذا عن دور المؤسسات؟ 

دعمت الدولة الملتقيات بملايين الليرات ولكن لم تكن الغاية نهضة الحركة الثقافية ولا تنويعها، بل كانت كسباً مادياً ومعنوياً للقائمين عليها غير مهتمين بنوعية المنتج، فالمطلوب فكر مؤسساتي يعتمد على الإنسان الناجح والمؤهل كائناً من كان، فالمجتمعات لا تدار إلا مؤسساتياً والمؤسسة هي فكر ديموقراطي إذا طبقت فيوضع الشخص المناسب في مجاله ويكافأ ويعاقب على ما ينتج، مما أنتج أشخاصاً هلامية الفكر والمنتج وأسسوا لخراب الحركة الثقافية بتعويمهم وقبولهم بأي منتج، وأحياناً يأتون بنحاتين من أوروبا ليستعرضوا عضلاتهم معتمدين على الحس القديم عند الغالبية فالأجنبي هو الفقيه الذي يفهم كل شيء لماذا إذاً نتغنى بثقافة عمرها 10000 سنة يجب أن نرعى أولئك الذين يعرفون تاريخهم وتراثهم القديم ويرغبون بتقديم انجاز، أرى في الأطفال فنانين وعلماء ولكن مواهبهم تموت لأن لا أحد يهتم بهم ولا مؤسسة ترعاهم.

أين الفن من حياتنا؟

إذا لم تمتلك عيني الذائقة اللونية ولم يصبح الفن جزءاً من حياتنا ونمارسه بشكل مباشر وملموس فلن ننتج مدرسة ملونة تنتج فكراً ملوناً، ويساهم في ذلك القنوات التي توصلها مثل الجرائد والمجلات التي توجه وتعطي قيمة وحتى في مجلات الأطفال هناك عموميات لا نحتاج لثقافة مقولبة بل يجب تقييم ما ينتج ثقافياً، وهو معروف في أوروبا إذ يجري تقييم الأعمال الأدبية والفنية خلال أسبوع وهي مهمة الجميع سواء الأحزاب أو الفعاليات التي يجب أن تمتلك الجرأة التامة لتقديم وجهة نظر نقدية في أي عامل فني فليس هناك حياد وفي الفن هناك أشياء اتفق عليها مثل التجانس والانسجام والإيقاع والتوازن فهناك سطوح وتلاعب الملمس مع المساحة، فعندما وضع اليونان الأسس الأساسية لأكاديمية الفنون ارتبطت بالواقع والواقع هو مسطرة أي عمل نحتي واقعي والفن الحديث ليس مخيفاً هو امتداد للواقع وتجاوزات معينة بناء على فكر معين ولكن للأسف جردناه كثيرا دون الاعتماد على مرجعية، تناسب المرحلة فالفنان يدعي كما يريد انه حر فمثلا يرسم نقطة سوداء يعتبرها فسحة أمل، وهذا تأويل لأنه لا يوجد حوار يلجم تجاوزاته حتى توضيحاً، دعونا نتحاور ونتناقش مع بعضنا ونختلف ونرجع في النهاية لحدود مشتركة، الثقافة صارت ضحلة بسبب الانترنت وإيجاز المعلومة فالجيل الجديد ليس عنده رغبة أن يسمع أو يقرأ الكثير لأنه تعود على السرعة وهو ما قلص الطاقة الاستيعابية بينما كان يقرأ المرء كتابين في الأسبوع سابقاً نتج جيل عصري يعيش الحدث التكنولوجي ولكنه يفتقد ثقافة المنهل.