إلى العلَم
أشعر الآن أنني بكامل أهليتي الوطنية، وبكامل انتمائي إلى هذه الأرض، التاريخ البدوي الذي خلف ظهري وأمامي، الآن وبكامل قوة الإنسان الأزلية التي نعيد اكتشافها عند المحن.. حينما نصير فوق حياتنا المتفردة، ونعيش كمخلوقات جماعية ضد لذّاتنا الأنانية، خوفنا الجماعي من صاعقة أو حريق، خوفنا الموزع بالتساوي، وذعرنا من ضياع هناءة المرور في الشارع دون التفافة، سطوة العتمة التي تترك فراعاً بارداً في الظهر.. الآن فقط وبكامل أهليتي الوطنية التي لا أشكك أنا فيها على الأقل، أحس بانتمائي إلى من يشكل فقط هويتنا الجماعية.. العلَم.
في هذه اللحظات التي لا عنوان لها إلا الخوف على مصافحاتنا العفوية، وتحياتنا التي لا هوية لها، وقبلاتنا التي لا نشتم فيها رائحة اختلافنا في التعبد ولمن نسجد، وتلويحاتنا غير المؤدلجة، وابتساماتنا التي لا تخفي الأنياب.
الآن وهنا.. تقاسمنا جميعاً من أعلن ومن أخفى الخيبات والآمال، جميعاً دون اصطفاف من أي شكل وقفنا على أبواب المؤسسات محتاجين، نتأفف كثيراً ونسخر أكثر، ننتظر في طابور لم نفكر لحظة من يحوي، من يقف وراء من، أمام الكازيات حين طار دعمنا، على أبواب الدعم الوطني في مراكز البريد والهاتف، خسرنا جميعاً في معادلة السوق الاجتماعي، في انتقالنا من اشتراكنا إلى خصوصيتنا المفترضة.. وجميعنا الآن نتقاسم الخوف على الطوابير الآمنة، الطوابير التي لا تعترف سوى فقط باجتماعها على الحاجة.
الآن وهنا.. نتقاسم رغبتنا الوحيدة بأبناء ليسوا هلعين، بأبواب أبنية مشرعة على الشوارع لا تخشى مرور أحد، ورحلات مشتركة، وقبل لا تميز الشفاه من لونها، وألسنة من كل اللهجات لا تصنفنا قبائل وعقائد.. أمي تشبه أمهات كل الأصدقاء، أمهات كل من عايشوني في الجامعة، ووجبات الغداء السريعة في بيوت تضع على جدرانها صور آلهتها، ورجالها، القسيسين والشيوخ والأئمة.. وصور الآباء الموتى والزعماء التاريخيين.
الآن.. نتقاسم أوجاعنا وزحامنا، ألم ندفع جميعاً ثمن علبة محارم ورقية وطنية سنين من الحصار والحرمان، ألم نحلم جميعاً بصورة الموز الصومالي في صحون أطفالنا، ألم يكن حليب الـ «نيدو» ذات يوم من كماليات وجبة صغارنا.. جميعاً من كل جهات الوطن تقاسمنا لحظات الانتظار والحرمان والحصار.
الآن وأنا أكتب هذه القواسم ثمة شرفتان مغلقتان بالأنوثة، أربع نساء يتبادلن الدلال والغنج، ولا يلتفتن إلى ما يلبسن، كلهن نزعن حجاب التواصل، فيسبوك مفتوح دون إذن من أحد، ودون بروكسي سوى اتفاق على الثرثرة المغناجة، أو ما هي مفردات غداء الرجال العائدين من العمل، أو لباس جديد لأطفال من السن نفسها، الشرفات هنا لا تعرف الفوارق التي توارثناها عنوة من تاريخنا الطويل العامر بالمؤامرات وصراعات ملوك الطوائف، ومفردات الطوائف الزائلة.
ماتت أم فؤاد حميرة التي كانت تفاجئني بابتسامتها البدائية الرائعة، ولا تفاجئني بوجبة الفاصولياء بالبندورة على (طربيزة قديمة) عندما كنا نفتعل الكلمات، ولم تكن همزات فؤاد المازحة عن الطوائف إلا وتزيدها سخطاً على الفكرة.
بكل حب أتقاسم مع يعرب العيسى (سلطة دلا) وكل الأغاني السورية الأولى، والشعر، وعشقي لتبغ يديه التي تخط أبدع زاوية صحفية سورية، ومع سلمان عز الدين وجهه الهادئ ولغته المهماز، ومع جورج كدر مثيولوجيا السوريين الأوائل، ومع راشد العيسى كل القضايا التي رفعت ضده، وشغب نبيل صالح، ونباتية عقبة زيدان وفلسفته.
تسحرني اللغة الشبقة لرائد وحش، واستطالات قيس مصطفى، ولكنة علي نمر، ومقامات (أبو نورس) العمالية.
أحترم إخلاص جهاد أسعد محمد لفكرة «الأفق»، وجَلد المقاوم خلف طاولته.. جميعنا هنا الآن نتقاسم المفارق التي لا توصلنا إلا للوطن.. العَلم وحده يحمينا.