الأطـفــال.. والحدث الجاري
طفولة تحتج بشكل معلن وغير مسبوق على تغييب برامج الكرتون، وتحويل العالم الطفولي إلى نشرات للأخبار.. فهل كان لزاماً عليهم أن يحملوا تناقضات وحيرة كبارهم؟
قرار الأطفال جاء سريعاً عبر هتافات متناقضة..
ثمة طفلة لا تتجاوز الخامسة، راحت تهتف في وضح النهار، وفي الآن معاً: «بالروح بالدم..» تلك العبارة التي تغطي سماء البلاد وهواءها، وتتبعها بـ«الشعب يريد....»!!.
تناغم معها طفل أصغر سناً معها مردداً.. «الله.. سورية..» لكن لغة الكبار التي لم تصله جعلته يقلب الـ«بس» بـ«مندس».. (وفهمكم كفاية)، بينما تلخص دور كبارهم، بالخوف المفرط، وإسكاتهم عن طريقة الترعيب والتخويف، أما الصغار أنفسهم فلم يدركوا حتى اللحظة سبب هذا القمع.
هكذا قرر الصغار دخول اللعبة، بطريقتهم الخاصة، رافضين، بشكل أو بآخر، الشعارات والهتافات الكبيرة، باللغة التي تفيض عن حجم طفولتهم، وكل غايتها تحويلهم إلى ببغاوات تكرر ما يلقنه الآخرون عن آخرين مهمتهم التلقين فقط.
ببساطة ومن دون تعقيد، تلاعب الأطفال بتلك اللغة، وحولوها كما يريدون، ثم أدخلوها قاموسهم الخاص، ليحققوا مطالبهم أسوة بالشعوب التي شاهدوا أعراس انتصاراتها في التلفزيون.
أعلن الطفل الأسمر النحيل، بدون إنذار، طلباته المشروعة: «الشعب يريد إسقاط بابا». وأمام ذهول الأب الذي لم يكن يتوقع هذا يوماً، في البيت المحصن والمستقر، كما ظنه دائماً، لم يكن أمامه إلا أن يسأل: لماذا؟ فجاء الجواب الطفولي ثابتاً واضحاً: أريد حقي في التلفزيون.. أريد أن أشاهد برامج الأطفال.
الصغير الذي توقع الرّد ظل ملحاً، مهاجماً سخرية والده بمزيد من الهتافات المرحة. والنتيجة جاءت بعدة خيارات: أولاً MBC3، ثانياً سبيستون، ثالثاً طيور الجنة، ورابعاً وخامساً وسادساً: ما تشاؤون من سبونج بوب، همتارو..إلخ..
العبرة بالنتائج، ولذلك كان لا بد من إكمال المسيرة، فعند أول مواجهة مع الأم التي لا تتوقف طلباتها ثمة مواعيد لكل شيء، يجب الالتزام بها دون أية معارضة رغم عدم معقوليتها أحياناً. فكانت الردود الاحتجاجية: «ما بدي آكل، مو جوعان».. «ما بدي نام، مو نعسان».. «دراسة، دراسة، حتى في أيام العطل!؟».
وانتقلت المواجهة إلى الميدان مع الأم عبر لوحات ملأت جدران البيت: «لا لماما».. «الشعب يريد إسقاط ماما».. «يا أمي اسمعي منيح.. هذا البيت مو مريح»..
احتجاج لم يستمر لأكثر من ساعة، فالأم الأكثر ديمقراطية من الحكام، وربما الأكثر خوفاً من الإجماع المنزلي المهدد بإسقاط حكومتها، حققت مطالب رعيتها سريعاً، مستبدلة القلق باستقرار منزلي حقيقي.. وهو الحل الأسهل والأفضل لو يعلم الحكام!
توسعت دائرة الاحتجاج لتصل إلى المدرسة: «الشعب يريد إسقاط المدير».. وبناء على الاحتجاج الطلابي المتصاعد تم تخطيط ملعب كرة القدم، وانتشرت الكرات المخبأة في كل أرجاء الملعب، وتم وضع الشباك.. وقام عامل البوفيه من جهته بتخفيض الأسعار، والمعلمون توقفوا عن الزجر والنهر، وانتشر الدفء في كل قاعات الدراسة بعد تركيب المدافئ.
انتصر الأطفال للمرة الثانية. لكن انتصارهم كان ملطخاً بكثير من التساؤلات الغريبة:
«آنسة بس تنتهي الحرب منروح على الرحلة؟؟».. والإجابة السريعة التي أكدت حالة اللاحرب لم تقنع سائلها، فالهتاف الآن لطفل جديد «الشهيد حبيب الله»..
مع محاولات المعلمة العديدة شرح وإفهام التلميذ أن ما يحدث في سورية ليس حرباً، بقي الصغير غير مقتنع، ومستمراً بجدال عقيم، مستشهداً بدروسه: يوسف العظمة استشهد بمعركة ضد الفرنسيين، وباسم مدرسته التي تحمل اسم أحد شهداء حرب تشرين.
بقي الطفل يتساءل غير مقتنع أن كل هؤلاء الشهداء يتساقطون ولا يوجد حرب في البلاد: «الشهداء مو إسرائيل قتلتهم؟؟».. «وين إسرائيل؟؟»..
ترى هل يخوض الأطفال أسئلة الواقع، أم أن أسئلة الواقع تخوض الجميع؟؟ الإجابة برسم من يعرف ماذا فعل الأطفال، وماذا فُعل بهم؟؟