ارهن خصوصيتك!.. بالضغط على «Accept»
لا تزال العلاقة بين الناس وبين تكنولوجيا المعلومات ووسائل التواصل الاجتماعي ملتبسة في كثير من جوانبها. إذ تهيمن الفوضى العارمة على حركة البيانات، وتتشتت الخصوصيات والهويات الحقيقية للناس من جراء ذلك، وتظهر في المقابل هويات منمطة مسبقة الصنع لتنتشر بسرعة في فضاء المعلومات المفتوح.
من أكثر المطبات المزعجة التي قد يواجهها المرء في يومه أن بعضاً من «الكبسات» العفوية أو الخاطئة على أزرار هاتفه المحمول أو حاسوبه، يمكن أن تصنع تحولات دراماتيكية على خصوصياته وبياناته وصورته عبر وسائل التواصل الاجتماعي. يمكن أن «تشوّه» بعض الفيروسات سمعة أحدهم على «فايسبوك» أو «تويتر»، ويمكن لأي شخص عادي أن يصبح بليلة واحدة فقط «نجماً» يُلهم الناس أو يضحكهم بمجرّد تداول مقطع فيديو أو صورة عنه بعدد «تسجيلات إعجاب» كبير. وفي كثير من الأحيان تتحول فيديوهات وبيانات مشوشة وغير موثوقة من جهة مصادرها إلى فتيل نزاعات دينية وطائفية وسياسية. بل وقد تصبح مثل هذه البيانات «دلائل» لدى حكومات الحروب الكبرى في المحافل الدولية لتحديد اتجاه «الضمير» الدولي تجاه هذه القضية أو تلك.
وبهذا المعنى أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي تؤدي أدواراً إعلامية كبيرة مع تمتعها بخاصية تغلغلها بالحيوات الشخصية لغالبية سكان المعمورة، الأمر الذي يمنحها قدرة أكبر على التحكم بالوعي الاجتماعي والرأي العام من خلال إدارة البيانات وتوجيهها بطرق معينة..
فوضى واستثمار
إن الفوضى المفتوحة على أشكال الاستثمار كلها، الإعلامي والتسويقي والثقافي والسياسي.. الخ، هي السمة الغالبة اليوم على العلاقة بين تكنولوجيا المعلومات ووسائل التواصل الاجتماعي من جهة، وبين حياة الناس وهوياتهم الفردية والجماعية من جهة أخرى. كيف يمكن لشركات عادية، هدفها المعلن هو الربح فقط، أن تتحكم بأشياء على قدر عال من الأهمية كالبيانات الخاصة بمليارات الناس؟ أو كيف يمكن لها أن تضع شروطاً مجحفة، سنطلع على نموذج منها فيما يلي، بحقهم؟ وذلك في ظل ازدياد الحاجة لدى المجتمعات لاستخدام وسائل التواصل المختلفة، ليس للترفيه فقط كما يشيع مالكوها، بل لتبادل المعلومات كجزء من النشاط المادي الإنتاجي للناس في حياتهم اليومية..
النموذج الأشهر
«فيسبوك» مثلاً يعنون الحديث عن «شروط الخدمة» بعبارة «إن خصوصيتك بالغة الأهمية بالنسبة إلينا»، ثم يحيل المستخدم إلى «سياسة البيانات»، التي تبدأ بعنوان: «ما هي أنواع المعلومات التي نجمعها؟» والإجابة نوردها باختصار: «المعلومات التي يوفرها الشخص عن ذاته، والمعلومات التي يوفرها الآخرون عنه، وشبكة المعارف والأشخاص، وأخيراً البيانات كلها الموجودة على الأجهزة التي يجري تشغيل التطبيقات عليها». والمستخدم بمجرد اشتراكه بـ«فيسبوك» يعد موافقاً بنحو تلقائي على أي توظيف لبياناته من الشركة وبأي شكل كان. والطريق الوحيدة لعدم موافقته على استخدام بياناته هي إلغاء حسابه.
وللمفارقة فإن إحدى التبريرات الداعية للسخرية عن سبب استحواذ الشركة على تلك المعلومات كلها هو «تعزيز السلامة والأمان»، بما يذكر على الدوام بأن هذه الذريعة هي الأشهر لدى أجهزة مخابرات العالم كلها، والتي يزعزع أكثرها الأمن فعلياً لتحقيق مآرب سياسية واقتصادية معينة، ويحارب الناس بذريعة «أمنهم».
Accept..»»
الوثيقة المذكورة أعلاه، التي أوردناها كمثال، تقدّم للمستخدمين على أنها نص قانوني، يوافق عليه آلياً كل من يستخدم «فيسبوك»، وعند تنزيل كل برنامج أو تطبيق على الحواسب والهواتف المحمولة الحديثة تظهر نصوص قانونية طويلة مشابهة، ينبغي الموافقة عليها بالضغط على زر Accept (موافق) قبل تنزيلها على الأجهزة. وكما هو معلوم أن أحداً لا يقرأ مثل تلك النصوص الركيكة والطويلة لتنزيل برنامج، لأن لا مغزى واضحاً من ذلك. يقول أحد المبرمجين مازحاً: «نوافق يومياً على عشرات الأشياء التي لا نعرفها؛ حتى لو تضمنت الاتفاقية شتّى أصناف الشتائم للمستخدم، حتى ولو كان خبيراً ومحترفاً، فإنه لن يعلم بوجودها لأنه سيضغط على زر Accept بدلاً من الخوض في نص لا يغني ولا يسمن».
الخصوصية المرهونة
لا تطرح شركات التواصل الاجتماعي «اتفاقياتها» كلها إلا بعد أن تصبح وسيلتها على درجة عالية من الانتشار. فكلما زاد عدد المستخدمين كلما زادت الشروط المفروضة على المستخدمين، ولكنها تعطيهم خيار أن يهجروا وسيلتها، إذا لم ترق لهم تلك الشروط، وهو ما يشكل بحد ذاته ابتزازاً للمستخدمين، حيث أنه غالباً ما تبدأ أية وسيلة بالانتشار على شكل أداة ترفيه، ولكنها عندما تصبح شائعة بدرجة كافية تتحول إلى جزء من علاقات الناس الضرورية، حتى أنها تدخل أحياناً في عملية نشاط الناس الإنتاجي. بمعنى أن ما يجري بالمحصلة هو إجبار مستخدمي الأداة على رهن خصوصياتهم مقابل الاستفادة من الميزات التكنولوجية التي تؤمنها الأداة..
هويات منمطة
يمكن لأي مستخدم عادي أن يلاحظ أن التطبيقات كلها الموجودة على أي هاتف محمول حديث نسبياً، كالفيسبوك والواتس أب والفايبر وتويتر وسكايب وإنستغرام وغيرها، مصممة بطريقة تدفع المستخدم نحو تشكيل هوية واحدة عبر الجهاز الذكي. هذه التطبيقات يتعامل كل منها مع نوع معين من البيانات، المكتوبة والمسموعة والمرئية بشتى أشكالها، وإمكانية تداول البيانات من تطبيق لآخر مفتوحة ومشبكّة، ولا سيما التطبيقات المتنوعة التي تنبثق من شركة واحدة، كـgoogle على سبيل المثال، التي تصل معلوماتها إلى درجة تحديد الموقع الزماني والمكاني للمستخدم عبر خاصية الـGPS.
بمعنى أن ما يجري فعلياً هو إعادة تشكيل هويات جديدة للناس من خلال إبراز شخصياتهم فقط من الإطار الواحد ذاته لوسائل التواصل الاجتماعي وبأساليب تعبيرية وانفعالية موحدة، وبدرجات تنميط وتوجيه عالي..
إن الفوضى العارمة في حركة البيانات اليوم باتت تتحول إلى أزمة مرهقة في تعامل الناس مع تكنولوجيا المعلومات. ومن المؤكد أن حلها لن يكون من خلال الانعزال عنها لكون الضرورة لها تتزايد بنحو مطرد مع تزايد تغلغلها في نشاط الناس المادي والاجتماعي، ولن يكون أيضاً من خلال التسليم لإرادات عدد محدود من الشركات التي تحتكر العمل في هذا المجال. في المحصلة لا بد من أن تتحرر التكنولوجيا من العلاقات المتهالكة في عالمنا المعاصر، وعلى رأسها قوانين الملكية الخاصة التي كان تجليها في وسائل التواصل الاجتماعي الأكثر شيوعاً بتسليع بيانات الناس الشخصية ورهن خصوصياتهم مقابل السماح لهم بالاستفادة من التكنولوجيا.