تلاقح ألوانٍ غائبٌ.. وعقمٌ فكريٌّ واضحٌ!
مكتبات أرصفة دمشق العريقة عراقة أبجديتها مازالت متنفساً لكثير من القراء التواقين إلى كتاب رخيص الثمن عميق المحتوى، لكن مع اختلاف بسيط؛ لم تعد تلك المكتبات وجبةً ثقافيّةً دسمةً ينتظر الكثيرون فرصة التلذذ بإهدار وقتهم وهم يحاولون الإحاطة بأغلب محتواها، بل باتت رفوفاً لعناوين تراها تتكرر على كل رصيف تحاول جرد محتواه، لتدرك ببعض من الملاحظة أن نمطاً واحداً تلبّس الحركة الثقافية السائدة في بلدك.
رواياتٌ لبضعة أسماء محدودة تحتار إذا ما كان الأدب السوري و العربي لا يملك غيرها لتنتشر بتناسخ غريب على أرصفة دمشقَ، كتبٌ لما يسمى بالتنمية البشريّة تحتل الصدارة محاولة إقناع القارئِ العربي (المعتاد دائماً على الطاقات الهائلة غير المكتشفةِ داخله) أنها الحل الأنسب لما يعانيه من قصور أو اضطهاد، كتيّبات لتعلم اللغاتِ والمهاراتِ في وقتٍ قياسيٍّ يفوق وقتَ طباعةِ تلك الكتيباتِ ونشرها. هذا باختصار محتوى مكتبات ضمت ذات يوم أندرَ ما أنتجته المكتبة العربية والعالمية.
وبالعودة إلى أسباب تحوّل تلك المكتبات بما تضمه من كتب أدبية ودراسات نقدية وثقافية وسياسية وتاريخية وتراثية ودينية ووطنية ودوريات قديمة وحديثة إلى رفوفٍ شبه فارغةٍ من محتوى مميّز، فإن أوّلُ ما يتبادر إلى ذهنكَ نمطٌ واحدٌ مفروضٌ على الحركةِ الفكرية في بلدكَ المعتادة دائماً على إعلاء أسماء معيّنة مقابل تهميش أخرى، تشكل بقلمها خطراً على تناسخ فكريّ يروَّجُ له .
حينما تفقد ظاهرة /بسطات الكتب/ التي طالما كانت وسماً جميلاً عريقاً يزين أرصفة دمشق تنوعّها، وتغدو بسطات صغيرة لعدّةِ كتب تجاريّة ترفع شعار: «لسنا الأفضل.. لكننا الوحيدون»، علينا أن ندركَ أن الإيديولوجية الواحدة التي سادت بلدنا عقوداً من الزمن مازالت تحاولُ خلقَ حالةٍ ثقافيةٍ سطحيّةٍ تنحصرُ ببعض الرواياتِ العاطفية وكتب تعليم التحايل على الواقع، وصولاً إلى مرحلة التأقلمِ معه، وإبادةِ أية إرادة تسعى لتغييرهِ.
مكتباتِ الرصيفِ الدمشقيّةِ فقدت ذاكرتها العريقة وما عادت قادرةً على إحالة الفراغ جنّةً تحتار في أي الطرق عليك تلمس سحرها، لعلَّ هناك من يرى ضرورة التغاضي عن ظاهرة أقل ما توصفُ به بأنها طبيعيةٌ في بلدٍ يعاني ويلات الحرب والدمار ولا وقت لديه لترميم جسده ثقافياً، ولعلَ البعضَ يجد في الوسائل الإلكترونية والإنترنت أكبر نافذة تتيح لنا الانعتاق عما يحاول فرضَه علينا من أنماط مشوّهة، لكنَّ العارفَ لدمشقَ يدركُ أنها ما تخلّت يوماً عن منبع جمال رفدها بالسحر والتميز، ويوماً ما ستعيد لأرصفتها حلّتها الفكرية متعددة الألوانِ المنبثقةِ عن فكر سوري لا يعرفُ التناسخ.