«زجاج»:  المثقفون النخبويين إلى الهاوية!

«زجاج»: المثقفون النخبويين إلى الهاوية!

قدم على خشبة مسرح القباني بين 3 و 7 نيسان، عرض «زجاج»، وهو اقتباس حر عن مسرحية (مجموعة الحيوانات الزجاجية) لتينسي ويلياميز، إخراج أسامة غنم، وإنتاج مواطنون فنانون والصندوق العربي للثقافة والفنون –آفاق، وامتد العرض على ثلاثة ساعات ونصف تخللتها استراحة قصيرة.

تدور أحداث المسرحية في أحد بيوت «بنايات الـ14» في المزة، وفي أحد الأعوام الأولى من الأزمة الراهنة، ويشترك في بنائها أفراد عائلة «درويش» من «الطبقة الوسطى» سابقاً! هم الأم «أمل» وابنها «يوسف» وابنتها «ديما»، في ظل غياب الزوج (اليساري السابق الذي هجر المنزل)، إضافة إلى زائر شاب هو «جمال» زميل يوسف في العمل والمستهدف من العائلة ليكون زوجاً لـ«ديما»..

 

يفتتح يوسف درويش العرض وهو بحالة يرثى لها، فهو ثمل وغاضب وناقم يخاطب عبر كاميرا تسجيل (المحكمين في الصندوق العربي للثقافة والفنون – آفاق) ساخراُ ومتهكماً لرفض تمويل مشروعه، ويقرر بأنه سوف يصور فيلمه «زجاج» عن هذه الفترة الكئيبة، ومن ثم يشن هجوماً عنيفاً على بقايا «الطبقة الوسطى الدنيا» على حسب تعبيره، وقبل أن يبدأ يثبت الزمن على الكاميرا التي استعارها.. ويستهزئ بالناس الذين يتعلمون لغات أجنبية، واضعاً منذ البدء ما سوف يجري في الفيلم من (أحداث، أفعال، مشاعر..) ضمن ما سماه (الخلفية اللغوية واللسانية للفيلم).

الأب فنان تشكيلي ترك أسرته ورحل خارج البلد، تاركاً وراءه غلافاً صممه لرواية «ذكريات التخلف» معلقاً على الحائط. الأم «أمل» كانت فاتنة في شبابها، تخلت عن طبقتها البرجوازية لأجل الحب، لينتهي بها المطاف أماً وحيدة هجرها زوجها. تحلم بماضيها وترفض الواقع باسمه. الأخت «ديما» فتاة خجولة لديها ندبة صغيرة على جبينها. تخرجت من قسم الدراسات في المعهد العالي للفنون المسرحية، وفشلت في الدراسة بمعهد اللغة الإنكليزية. نادراً ما تغادر الشقة بإرادتها. تشغل نفسها في العناية بحيواناتها الزجاجية الجميلة التي ترفض الواقع باسمهم. الابن «يوسف» بالإضافة لكونه راوي الفيلم-المسرحية، فهو أيضاً شخصية فنية، فهو سينمائي هاوٍ يعمل نائب مدير المبيعات في محل حلويات البيلسان في مول داماسكينو أثناء النهار ويختفي ليلاً لمشاهدة السينما. راتبه 40 ألف في الشهر، يدفع منها أجرة شقة عائلته. مهووس بالسينما المعاصرة ويرفض الواقع باسمها.

الزائر الشاب «جمال» يظهر في المقطع الأخير من الفيلم- المسرحية. رئيس قسم المبيعات في محل حلويات البيلسان في مول داماسكينو أثناء النهار ويدرس الموارد البشرية ومهارات التواصل ليلاً. راتبه مئة وعشرة ألاف  في الشهر. مقتنع بالواقع، ويعمل على امتلاك المعرفة، والنقود، والسلطة، لتحقيق حلمه في العمل في مكاتب الشعلان.

 تفصح الأحداث عن جملة من المشاكل والصراعات اليومية التي تعيشها هذه العائلة، فالأم «أمل» غير راضية عن سلوك ابنها، والابن «يوسف» يحلم طوال الوقت بالخلاص من هذا الجحيم، ويأتي خداع «ديما» لأمها حول دوامها في معهد اللغة نقطة الفصل إذ يتحول تركيز الأم نحو الحصول على خطيب لديما، وتقنع ابنها بأن يحضر زائراً شاباً للبيت لكي يعجب بأخته ويتزوجها، ويحل محله في المصروف، وبذلك يكون الحل المناسب لكي يذهب في حال سبيله. 

هنا تتم دعوة «جمال»  كخاطب متوقع، والذي يحدث زوبعة في البيت وفي حياة ديما خصوصاً التي كانت معجبة به منذ أيام مدرسة اللاييك، فهو إذ حاول مساعدتها على تجاوز عقدها ونجح في مراقصتها، لكن ديما تخطئ وتقوم بتقبيله، قبل أن تعرف أنه مخطوب، فتنكسر، كما انكسرت البجعة المحببة لها من مجموعتها الزجاجية أثناء الرقص معه.

يختم المخرج الفيلم-المسرحية، بحديث أخير لراوي الفيلم «يوسف» واضعاً أمامه كاميرا يتكلم فيها عما حصل معه، كيف طرد من العمل لأنه كتب قصيدة على علبة مبرومة، والسفر بعيداً متتبعاً خطوات أبيه. ليصادف أخته «ديما» في مدينة ما غريبة تعمل في محل لبيع العطورات مع ( جزائريات وفلسطينيات ولبنانيات)، لينهي حديثه بروح من العدمية (العالم كله مول.. الشمس غابت)

يمكن لقارئ النص الأصلي والسياق التاريخي الأصلي لمسرحية وليامز، أن يشهد للعرض بذكاء الاختيار والاقتباس، فالنص الأصلي يعالج حالة أسرة أمريكية من «الطبقة الوسطى» المتداعية والمنهارة ذاتها، أيام أزمة الكساد العظيم 1929، مع فارق جوهري هو الشحنة العامة والرسالة النهائية لكلا المسرحيتين، ففي الوقت الذي يترك نص وليامز قارئه محملاً بشحنة إيجابية فحواها أنّ انهيار هذه الطبقة- الفئة، وإن كان أمراً محزناً لأفرادها، ولكنّه بالنسبة للمجتمع ككل ليس كذلك تماماً! فأهم ما ينهار ضمن هذه الفئة ليس أوضاعها المادية فحسب، بل وجملة الأوهام والخرافات الدائرة حولها، حول كونها «حامل الثقافة والتقدم والنور» وإلخ.. في الوقت الذي يحمل فيه نص وليامز هذه الشحنة الإيجابية، يحمل عرض زجاج شحنة معاكسة تماماً.. شحنة شديدة السلبية والعدمية..

إنّ العرض ككل يضع المشاهد أمام واقع انهيار فئة طبقية- اجتماعية محددة، هي تلك الفئة التي تشكل أهم منابت ما يسميه غرامشي «المثقفين التقليديين»، أولئك المحسوبين على «عالم الأنوار»، الذين يتخيلون أنفسهم قادة للمجتمع، وللرأي العام، وهم يكونون كذلك فعلاً طالما بقوا في جلباب السلطة، ولكن عند أول هزة اقتصادية واجتماعية وسياسية تتعرض لها البلاد، يتكشف طابعهم الأناني و«البرجوازي الصغير» الضيق والتافه، والأزمة التي نعيشها وضعت كماً كبيراً من «قادة الرأي» هؤلاء الموضع الحقيقي الذي يستحقونه، فوزعتهم بين مثقفي سلطة هي السلطة القائمة، وبين مثقفي سلطة مفترضة، هي سلطة أشكال وأنماط معارضة من تلك المرتبطة بالغرب و«معترف بها» منه.. ونادراً ما غادر هذه الساحة أي من هؤلاء المثقفين التقليديين ليغدو مثقفاً عضوياً بحق، مثقفاً بوظيفة اجتماعية معارضة تنطلق من الولاء لعامة الناس ولقضيتهم.

عرض «زجاج» يحمل في داخله، على ما نعتقد، رسالة مزدوجة، فهو إذ يعرض واقع انهيار فئة اجتماعية واقتصادية محددة، فإنّه يترك الباب موارباً أمام نوعين من الاستنتاجات ومن الاتجاهات: فإمّا الإقرار بأن هذه الفئة هي حقاً منتج الثقافة والعلم والتقدم، وتالياً فانهيارها يعني مستقبلاً أسوداً وانحطاطاً على المستوى العام، وعلى مستوى الفئة نفسها يعني دعوة للعزلة والنخبوية والتعالي عن «المجتمع الجاهل»، ودعوة للانصراف إلى التهويم والفردية وما إلى هنالك، وهذه كلّها وسائل دفاع نفسية أمام حقيقة بؤس هذه الفئة وفراغها من مشروع عام تستطيع تقديمه لنفسها وللمجتمع. وإما الإقرار بأنّ نسب «الأنوار التقدمية» لهذه الفئة من الناس ليس إلّا وهماً لا يجوز الركون إليه..

إنّ التنظير لهذه الفئة (ما يسمى الطبقة الوسطى) بوصفها حاملاً للثقافة وللتقدم، ليس أمراً جديداً، فلطالما روجّت الأوساط الرسمية والحاكمة على مستوى العالم، وطوال القرنين الماضيين، لهذه المقولة، وكذلك الأمر في أوساط «الاشتراكية الدولية» والأوروبية خاصة، التي تشكل أحد أهم احتياطات الغرب في وجه الأفكار التقدمية الحقيقية.

وإنّ ما يمكن لمشاهد عرض زجاج أن يراه بؤساً، يمكن له أن يراه عكس ذلك تماماً! فانهيار هذه الفئة، بل والاعتراف بانهيارها ودخولها النفق العدمي، هو الخطوة الأولى خارج التاريخ للمثقفين النخبويين المنعزلين، أولئك الذين كانوا ولا يزالون يدعون انتماءهم لليسار وهم في الجوهر أهم دعائم اليمين، وهو أمر جيد على كل حال إذ يفتح الباب واسعاً أمام مثقفين حقيقيين، ذوي وظيفة اجتماعية تنويرية وتقدمية حقة.