في ذمّ الربيع وفي حبّه!
أحمد (23 عاماً)، في ربيعٍ ما، قبل سنوات قليلة، يبدو الآن بعيداً جداً، وتكاد الذاكرة لا تلتقط منه سوى ومضات خافتة، كان أحمد في سنته الجامعية الأولى، يبني أحلاماً بعرض سماء زرقاء وبطول طريق السرفيس نحو الجامعة، وكان له أصدقاء كثر يدعّمون الحلم ويحرسونه..
عماد شربل
والآن يعبر الطرق ذاتها التي لم تعد كما كانت، فأحلام يقظته كانت شروداً مَحْضاً ولكنّه شرود يلتقط جنبات الطرقات وشمسها وضحكاتها ليبني منها الحكاية. الآن شروده خامل، شروده أقرب إلى ذهول بارد تقض سكينته شمس الربيع فلا تحيي الحلم ولا تميته، فقط تفتح الذاكرة على أوجاعها، تفتحها على الحنين..
أم فراس (54 عاماً)، ابنها العشريني معتقل منذ ثلاث سنوات، ولا تعلم عنه شيئاً، لا تعلم أميت أم حيّ. يعزيها أنّ الربيع لا حار ولا بارد، والحر والبرد في المعتقلات مسألتان خطيرتان كما سمعت من كُثر. الربيع يعضّ قلبها ويدميه، ترى شباناً يتنفسون شمساً لطيفة ويجولون بأبصارهم فتلتقط أعينهم كوناً واسعاً، وآذانهم تلتقط الموسيقى والصخب، والفرح الموعود، وابنها بعيد عن هذا كلّه بين جدران كتيمة.. تأخذها قدماها نحو صديقتها الخمسينية، أم لشابة خطفت منذ سنتين، تتقاسمان الهم وتقسطانه على أيام تصل بينها غصات وحسرات لا تنتهي.
ليلى (22 عاماً)، تقول لصديقها الذي اجتاز الثلاثين مؤخراً، جيلكم عرف من الحبّ ما لم نعرفه، كنتم تعبرون في بدايات عشرينياتكم من أحلام المراهقة الملونة إلى الواقع عبوراً سلساً، تفرضون شيئاً من الحلم على الواقع فتعيدون صياغته واقعاً حالماً، تصطدمون في نهاية المطاف بالواقع كما هو واقعياً، ولكنكم تحتفظون ببذرة الحلم وتطورونها لتبقى.. الأمور الآن أعقد، ليست لدينا أوهام كثيرة حول الحب، لكننا لم نعد قادرين على الحب! لا نعرف كيف نبني أحلامنا انطلاقاً من الواقع، أنتم ذهبتم من أحلامكم نحو الواقع ووجدتم الطريق، بشكل أو بآخر، بدرجات من الفشل وبدرجات من النجاح، ولكننا نحن نبني أحلامنا على أرض الواقع، ربما ستكون أحلامنا أقوى وأنضج وأثبت من أحلامكم، لكن التقاط خيط الحلم بات أكثر صعوبة.. وللربيع مساوئه إذ يشرّع بوابات القلب للأحلام في أرض مليئة بالوحوش التي تقتات أحلاماً..
أبو عاصم (65 عاماً)، كبر في السنوات الخمس الماضية عشرين عاماً، قبل ذلك كان لا يزال قوياً يقطع بين عمله في الوظيفة وشغله الثاني بعد الدوام سيراً على الأقدام ما يصل إلى 10 كيلومترات. الآن هو متقاعد وله أربعة أولاد جامعيين وزوجة طيبة القلب وبيت مستأجر تزداد أجرته كل بضعة أشهر. يشرب أبو عاصم قهوته على الشرفة قبل السادسة صباحاً، ويطيل التفكير والتأمل، يتذكر بيته الذي أخذته الأزمة، ويلقي همّ الأولاد على كتفيه المتعبين. جزء من معيشتهم اليوم هو من المساعدات، وهذه لا تغني ولا تسمن من جوع، وفوق ذلك فهو يشعر بالمهانة كلّما وقف على الطوابير لتلقي المساعدات.. الربيع يدفئ عظامه، والفقر المستجد لا يمنعه من الإصرار على متابعة الأخبار كلّها وعلى رعاية نباتات الحبق والعطرة التي تملأ شرفة الدار.
سهى (18 عاماً)، تشتغل في أحد المعامل في ضواحي دمشق، من الثامنة صباحاً وحتى السادسة مساء، مقابل 20 ألف ليرة شهرياً، لها ست أخوات أخريات يعملن بأعمال مشابهة وبأجور مشابهة، وبالإجمالي فإن العائلة لم تجع كثيراً بعد. أقصى ما تحلم به الآن هو زوج ينتشلها من الوحل الذي تعيش فيه. أقدمت على تضحية كبرى هذا الربيع، فاشترت ثوباً جديداً ملوناً كلّفها نصف راتبها، ولم تلبسه بعد، بانتظار يوم عطلة مشمس تبني في ظلاله حلماً قصيراً ومكثفاً ومليئاً بالألوان.
الربيع يمر بالسوريين فيشعل فيهم الحلم، يفتح نوافذ قلوبهم المتعبة، ويبعث فيهم الأمل بالخلاص.. لا تزال الدماء تضّج بالحياة وبحبها، والربيع إذ يدمي القلوب حنيناً فإنّه يعدها بأن الأيام السود ستمر، وأنّ ما بقي أهم مما مضى، وبأن على هذه الأرض ما يستحق الحياة..