«أكيتو».. رسالة آشور الى العالم
تحتفل العديد من شعوب ما بين النهرين ومنذ ألاف السنين، في الأول من شهر نيسان، بعيد «أكيتو».. وكغيره من الأعياد القديمة لشعوب الشرق، ارتبط هذا العيد بالطبيعة، حيث الأول من نيسان«نيسانو» لدى البابليين القدامى، هو العلامة على بداية الربيع والإعلان عن ولادة الحياة ورمزاً للخصب وحَبَل الأرض بكل ما هو أخضر.. وهو لون الحياة.
يعتبر هذا الطقس الاحتفالي الموغل في القدم، أحد مصادر تكون وعي شعوب الشرق، تجاه الطبيعة المحيطة بهم، وفهمهم للعالم، وانحيازهم الطبيعي إلى الخير، وسؤالهم الدائم عن الإله المخلص.
كان الاحتفال بهذا العيد يستمر لمدة «11» يوماً متواصلة، ويعود سبب ذلك بأن إنسان ذلك العهد لاحظ في بادئ الأمر أن دورات الطقس والمناخ تتكرر، وتُعيد نفسها كل اثني عشر دورة من دورات القمر تقريباً، فسمى تلك الفترة (سنة أو سنتة أو شنتة) إكراماً لإله القمر (سن)، فقسموها إلى أربعة فصول وسموها بمسمياتها: (الربيع) وهو أول فصول السنة وكرسوه للإله (مردوخ) الإله الحكيم ورب الكون. يليه فصل (الصيف) وكرسوه للإله (ننورتا) إله الرياح الجنوبية ورب القنوات والسدود والري، ثم فصل (الخريف) وكرسوه للإله (نابو) إله الكتابة والحكمة وابن الإله مردوخ، ثم فصل (الشتاء) وكرسوه للإله (نركال أو نرجال) وهو إله الموت والعالم الأسفل، معتقدين أن الشمس تكون في منازل تلك الآلهة خلال تلك الفصول.
يتداخل العيد مع الميثيولوجيا الدينية التي كانت سائدة في ذلك العصر فأن يكون أوكيتو هو ترحيب واحتفال بالطبيعة وابتهاج بقدومها وبخيراتها الموسمية، فإنه في الوقت نفسه يرمز إلى أسر الإله تموز الذي يتم الاستعاضة عنه بالإله مردوخ في أيام الأكيتو، وغيابه لنصف سنة في عالم الأموات الأسفل، ومن ثم بعثه وقيامته، وهذا يحدث كل سنة ويرمز للطبيعة، وحلول الشتاء وموت الزرع والخضرة ومن ثم عودتهما في فصل الربيع والصيف.
احتفالاً بانتصار الإله مردوخ على الإلهة التنينية تيامات، وقيامه بخلق وتنظيم الكون . وهو رمز رائع لمقاومة أزلية للقوى العدمية المتصدية لحركة الكون بُغية إعادتهِ إلى حالته السكونية الأولى.
ليس ذلك فحسب، بل تذخر أساطير شعوب الشرق دائماً ببعد اقتصادي اجتماعي، فالاحتفال يتزامن مع إعادة تتويج الملك الأرضي، وتجديد صلاحيته وسلطته، حيث كان ملوك وحكام بلاد ما بين النهرين يعتبرون أنفسهم وكلاء أو مستأجري أرض الإله، ويتعين عليهم تجديد عقد الإيجار من الإله كل عام، وتحديداً في عيد الأكيتو (رأس السنة).
بالإضافة إلى ذلك، كانت مدينة بابل تزدحم بالزوار من المدن الأخرى كلها، كما هي الحال اليوم في شهور الحج للمدن الدينية المقدسة للأديان كلها، وما يصرفه الزوار من مبالغ طائلة كل عام.
وفي السياق نفسه، يظهر الإله مردوخ في تماثيله وهو يحمل (العصا والدائرة) ويرمزان للحياة والقدرة على منحهما، كذلك يرمزان لحيازة السيادة على مجتمعين ونظامين: الرعوي الذكوري والزراعي الأمومي، فالعصا تُمثل الذكورة، والحلقة تُمثل الأنوثة.
ويلاحظ حتى اليوم، تأثير هذا العيد في العديد من الجوانب، واهتمامات الإنسان المعاصر بأشكال مختلفة، وفي مجالات متعددة، مثلاً: لا زال النظام القديم للسنة الرافدية موجوداً في تكوين (الأبراج) الذي أوجدهُ البابليون، ولهذا نرى أن برج ( الحمل - نيسان) هو أول الأشهر، والأبراج في شهور السنة البابلية.
ولا زال الأحبار المسيحيون الرعاة من الأساقفة والمطارين في العراق يستعملون عصا في نهايتها العليا دائرة، وهي رمز القيادة وعلامة الراعي، ونلاحظ هنا عمق التواصل التاريخي في موروثات بلاد ما بين النهرين.
إن هذا العيد وسواه من الأعياد في الشرق، تعتبر في جانب منها مخاضات تشكل الفكر الإنساني، وتعتبر دلالة على الغنى الحضاري والثقافي في هذه المنطقة، وتشكل جزءاً من الثقافة الإنسانية، وجزءاً من العالم الروحي للإنسان الشرقي حتى الوقت الحاضر.
يعتبر هذا العيد، لدى الـ«كلدو آشور» في العصر الحديث عيداً قومياً، إذ يتم الاحتفال بالخروج إلى الطبيعة، تحاكي التقاليد التاريخية لهذا العيد من جهة، ومن جهة أخرى يأتي في سياق السؤال عن الذات، و البقاء والوجود. حيث تعرضت عموم شعوب هذه المنطقة ومنهم الـ«كلدو آشور» إلى عمليات تهجير ونزوح، وإنكار وجود، في ظل الصراعات العالمية والمحلية.
إن هيئة تحرير قاسيون، تتوجه في هذه المناسبة بالتهنئة إلى عموم الشعب السوري، وخصوصاً الكلدو آشور، وتأمل أن تكون مناسبة من أجل المزيد من النضال من أجل الحل السياسي، وعملية التغيير الجذري والشامل، وبناء سورية الجديدة، دون تمييز بين أبنائها على أساس القومية أو الدين.