«ذهنيات العوام» وثقافتهم
رغم ما تميز به التاريخ الإسلامي من تنوع المعلومات وكثرتها واختلافها، إلا أنه ما يزال هناك الكثير فيه مما يلفه الغموض وما يتطلب إعادة دراسته وبحثه، وخاصة ما يتعلق بصنّاعه الحقيقين.
يعرف عن العوام عموماً أنهم الأقل حظاً في العلم من الطبقات الأخرى، ومع ذلك يذكر التاريخ في صفحاته نماذج عديدة عن علماء وأدباء وفنانين كانوا في الأصل مزارعين أو رعاة أو حرفيين. فمثلاً أشهر المعتزلة كانوا من أهل الحرف والصناعات أو المشتغلين بالتجارة.
لا يمكن إنكار حقيقة تدني ثقافة العوام في مجملها، بعد أن ضجت بالخرافات والشعوذات، خصوصاً في العصور المتأخرة. وقد انطوت الكثير من المعتقدات الصوفية مثلاً على مضامين اجتماعية وثقافية كانت تعبيراً عن طبيعة مجتمع متأزم، استعصت حلول مشكلاته، فذهبت إلى الاستعانة عليها بالصبر، أو طلب الخلاص في الآخرة!
ومن المعروف أن ثقافة العوام غالباً ما كانت «شفاهية» أو غير مكتوبة، ومع ذلك احتوت الحَوليات التاريخية الكثير من المعلومات الخاصة بالمأكل واللباس والمسكن وطرائق التفكير والعادات والتقاليد.. إلخ. كما كشف «الطب الشعبي» عن إبداعات للعوام تجاوز الكثير منها طور الخرافة ومال إلى التجريب واكتساب الخبرات في علاج الأمراض والتداوي، مازال الكثير منها يحمل عناصر استمراريته وصالحاً للتداول حتى عصرنا هذا.
وخلف العوام أدباً شعبياً عرف باسم «أدب الزهد والرقائق»، عبروا فيه عن موقف العامة إزاء الحكام الجائرين والموسرين. كما أسهموا في مجال الأدب، نثراً وشعراً، فأدب «المقامات» مثلاً يعبر عن معاناة المكدودين والمتسولين وبؤس الشرائح الاجتماعية المهمشة. وينطوي على قدر من «النقد الاجتماعي» الذي يصل أحياناً الى حد التحريض على الثورة للتخلص من تلك الأوضاع المزرية. ومن أشهرها مقامات «بديع الزمان الهمداني» الذى كان من المكدودين، وقد راجت مقاماته بين جموعهم عن طريق التداول الشفاهي. أما «الأمثال»، فكانت بمثابة نوع من الأدب الفلسفي الذي امتاز بإيجاز اللفظ وتحقيق المعنى وحسن التشبيه، وعالجت الأمثال موضوعات حياتية وكانت تفصح عن خبرات وتجارب جرى التعبير عنها بطريقة ساخرة من الحكام، وتظهر فقدان الثقة في شخوصهم. كما انطوت على الكثير من الفضائل، كالتحلي بالقناعة والتراحم والتكافل، بما يساير طبيعة مجتمعات غصت بالظلم الاجتماعي والاغتراب السياسي. وحوت أغلب هذه الأمثال المتداولة شفاهاً ألفاظاً من العربية الفصحى جرى تحريفها، وكانت تحمل ألفاظاً من لغات قديمة.
أما في الشعر، فقد أبدع العوام والمهمشون نوعاً من النظم تجاوز الشعر التقليدي في موضوعاته وطرائقه ولغته ومقاصده. ومن أبرز ما في هذا النوع من الشعر الشعبي فن «المواليا» الذي استحدثه عامة بغداد. كما أبدع العوام في الأندلس فن «الأزجال» الذى ندد بالسلاطين، في مقابل «الموشحات» التي عبرت عن شرائح الطبقة الأرستقراطية. لذلك كانت الأزجال تلقى بالعامية، بينما كانت الفصحى لغة الموشحات، وتميل الأزجال إلى الزهد والسخرية والفكاهة والظرف وقد انتقل هذا الفن الى مصر، حيث وضع «ابن سناء الملك» قواعده، ثم انتشر كذلك بين عوام العراق.
يكشف هذا النتاج الأدبي والثقافي عن هموم الطبقات الكادحة وطموحاتها في الخلاص، كما يكشف عن حقيقة عجز القوى الاجتماعية المهمشة في إحداث الانقلاب الثوري في واقعها، خصوصاً بعدما آلت إليه الانتفاضات والثورات الاجتماعية من فشل وإخفاق، برغم كثرتها وتعددها. مما جعل أدب العوام يتسم عموماً بالخنوع وقبول الأمر الواقع والتسلح بالصبر، ومهادنة السلطة. رغم أنه كشف عن حقيقة تردي الأحوال الاقتصادية، وطبيعة علاقات الإنتاج الإقطاعية والعبودية.
أضاء الأدب الشعبي، في المجال الاجتماعي، ما أهملته المصادر التاريخية والأدب الرسمي حول إشكالية «البناء الطبقي» وأثبت دون شك وجود طبقة واسعة وعريضة من العوام المستضعفين والأرقاء، في مواجهة «طبقة أرستقراطية» عاتية ومتجذرة، وأخرى «وسطى» هزيلة ارتبطت بالطبقة العليا، كما كشف هذا الأدب الشعبي عن تكريس «الوضع القائم».
كما أبدع العوام، في مجال الفنون، أعمالاً فنية صادرة عن «الوجدان الجمعي» في صورة «تمثيل» مرتجل قام به المحاكون الهزليون الذين عرفوا باسم «أصحاب السماجة» وهم يعتمدون في «تمثيلياتهم» على الحركات الغريبة، وقص «الحكاوي» الهزلية بصورة تعبر عن الصفات والأخلاقيات البشرية المتنوعة، مستعينين في ذلك ببعض الأدوات البدائية التي تساعد على تجسيد العمل الفني كما كان هؤلاء «المحاكون» يقدمون نوعاً من المسرح البدائي الذي يصور بعض الوقائع العسكرية أو الكوارث الطبيعية والبشرية. كما جرى استخدام «الدمى المتحركة» التي تحكى عن نماذج اجتماعية واقعية، عرفت لذلك باسم «خيال الظل» التي يعتبرها بعض النقاد إرهاصاً لفن المسرح. تلك صورة مجملة عن «ذهنيات العوام» المعبرة عن ثقافتهم التي لا تخلو من إبداع، بما ينفي الاتهام الشائع بجدب ثقافة العوام والمهمشين.