شعر المنفى المكاني والثقافي
بعد خروجي من العراق في خريف العام 1991 بقليل، كتبت آنذاك مقالة بعنوان «ثقافة أم ثقافتان» بعد أن واجهت فور مواجهة «المنفى » صورة نمطيّة لتوصيف أدب الداخل العراقيّ حينها بأنّه أدبٌ فاشي، لأنَّه مكتوب تحت سقف محدَّد حيث لا حريَّة للكاتب في تدوين ما يرى ويريد. اليوم، وبعد أكثر من عشرين عاماً على تلك المقالة، وبعد زلازل كبرى طحنت البلاد والعباد وتبدَّلتْ خريطة المنفى، وتداخلت الخطوط بين ثنائية الداخل/ الخارج أجد نفسي أمام السؤال ذاته، وكأنَّ كلّ تلك الزلازل والنكبات لم تقوَ على هَدْم تلك الحدود الأزلية كأزلية النور والظلمة.
مفهوم المنفى نفسه قد تغير بعد ذلك الوقت، وتحديداً بعد الاحتلال، فقد تعزَّز بالمزيد من الأسماء المهمّة في الثقافة العراقيّة، كما أنّه لم يعد أيديولوجيّاً، بل إنَّ الداخل أو الوطن المزعوم أضحى منفى آخر، منفى مفتوحاً لأولئك المنفيّين القدامى وهؤلاء الجدد معاً، لم يعد المنفى مكانيّاً إذاً، بل أصبح نفياً مزدوجاً مكانيّاً وثقافيّاً، هذه المرّة ليس بفعل الفاشية التي انهارت، وإنما بفعل عقليّة الإقصاء والإلغاء وشيوع نموذج المثقف القطيعي المستسلم والمهادن، مثقف الطاعة والهبات وعدم القدرة على العصيان. الأدب الخالد أسَّسه المنفيون منذ تلك المنافي الأسطوريّة لأوفيد ودانتي وصولاً إلى منافي الشعراء الكبار من إرث الاشتراكيّة في القرن العشرين كبرودسكي وميووش.كما أنّنا نعرف أنَّ هناك دولاً شيَّدها المنفيون من نموذج الأندلس، إلى فكرة أمريكا، فهل يستعصى على الشعراء منهم تشييد ثقافة جديدة وحركة شعريّة ذات خصائص واضحة؟.
العالم الآخر أسَّسه الشعراء العراقيون المنفيون في القرن العشرين وما بعده، منذ سكَّان الأضرحة البعيدة كعبد المحسن الكاظمي وصولاً إلى الجواهري والبياتي وبلند الحيدري وسركون بولص، وليس انتهاء بسعدي يوسف ومظفر النواب وهم يطيحون بآخر الأوهام للفكرة الرومانسيّة عن «الوطن ». هذه رموز الشعر العراقيّ في قرن كامل، تموت كلُّها في المنافي أو تكاد، لقد أضحى المنفى خياراً، ولم يعد مجرَّد اضطرار، المثقف الحقيقي عبر العصور هو المثقف المنفي، لأنَّه يحمل شعار العصيان الدائم، ويهرب باستمرار من بيوت الطاعة، والشاعر هو المجسّد لصورة ذلك المثقف وأشعاره هي سيرته وشِعَاره.
حركة الشعر العراقيّ الأصيلة تتمثَّل بشعر المنفى فقط، وأعيد التأكيد هنا أنّ المقصود بالمنفى ليس المكاني فقط، أو من المنفى الذهني، وهذا المفهوم ينطبق على منفى الداخل، ومن هنا كذلك حاولت في كتابي النقديّ عن الشعر العراقيّ «حطب إبراهيم» ترسيخ مفهوم «الجيل البدوي» لتوصيف أولئك الشعراء المنشقِّين دائماً عن سياق الثقافة السائدة، ذلك أنّ نموذج «الجيل البدوي» غير متوافق، ليس مع محيطه المؤسّساتي فحسب، بل ومع تراث الدولة، ووصايا أجداده وآبائه من الأجيال السابقة، كما يبدو «البدوي» أفصح قرين لفكرة التمرُّد، ونشدان الحرِّية، تحت وطأة الحروب الإقليمية والنزاعات المحليّة ونزعة الهويّات الضيّقة.
* عن مجلة «بيت الشعر»