الجوع.. هذا الطارق اللجوج

أول أمس، كنت أطالع كتاب الدكتور فيصل عبد الله مقدمة في علم الأكاديات، دهشت من رسالة مدونة على رقم طيني تعود إلى أكثر من 3800 سنة مرسلة من ساميتار رسول أو سفير (زمري ليم) ملك مدينة ماري في القصر الحلبي. تحكي الرسالة عن مفاوضات لإرسال القمح والشعير من حلب  إلى مملكة ماري التي تمر بأزمة جوع نتيجة القحط والجفاف والحروب. حيث عرض ساميتار في هذه الرسالة نتائج مباحثاته مع (ياريم ليم) ملك حلب، وأرسلها إلى مليكه في ماري. والرسالة لم تخبرنا هل أُرسل القمح الحلبي إلى ماري أم لا؟ من جهتي أزعم أن القمح والشعير قد أرسل فعلاً، وصلت الحمير والبغال من حلب في الشمال إلى ماري على الفرات الأوسط تحمل الخير للناس، وزعت الأرزاق وشبعت البطون الخاوية.

أقول تعليقاً على هذه الرسالة المهمة: لا بدأن يعمل الحاكم  بحميَّة  وحماس على قتل الفقر والجوع، لأن الجوع كافر. وقد التفت زياد الرحباني   في ثمانينيات القرن العشرين لهذه المأساة البشرية، فصرخ صرخته الشهيرة المدوية: أنا مش كافر بس الجوع كافر. و كان الإمام علي بن أبي طالب صادقاً في قوله لو كان الفقر رجلاً لقتلته. وقد أوجعت مشاهد الفقر والجوع على امتداد كوكب الأرض قلب معلمي الراحل العلامة البغدادي هادي العلوي، فكرّس مشروعه البحثي والعملي لنصرة الخَلق. أي من أجل الجنس البشري من حيث جوهره الإنساني بغض النظر عن اللون أو العرق أو الدين. وقد أسس مشروعه في جملته على وحدتين متعارضتين؛ تتصارعان فيما بينهما حول الإنسان، الأولى تريد أن تشبعه وتكرمه، والثانية تريد أن تفقره وتذله، والفئة الثانية تتحمل مسؤولية المأساة الإنسانية المتمثلة في الفقر والجوع، لأن تراكم الثروة الاجتماعية لدى فئة الحكام، وفئة الأغنياء، يؤدي بالضرورة إلى حرمان الأكثرية وترف الأقلية، وحرمان الأكثرية يؤدي إلى إفقارها وإذلالها. فالفقر والجوع يمنع الإنسان من حقه الطبيعي في الحياة. والذل يمسخ جوهره البشري. كما أن ترف الأقلية يؤدي إلى فساد المترف، وإفساد غيره. ولذلك تكون السلطة والمال مصدرين أساسيين للطغيان والاستبداد.                                                                   

ومع بداية الثورة الصناعية في منتصف القرن الثامن عشر نجح معظم البشر في انتشال أنفسهم من ذل الفقر والجوع.  إلا أن نحو أكثر من مليار نسمة من سكان العالم  اليوم هم معدمون كلياً في عالم من الوفرة. ويعتقد البعض أن سبب مشكلة الجوع هو نقص الإنتاج، ولكن العالم زاخر بالطعام، كما هو متخم بأناس متخمين من كثرة ما يأكلون. والحقيقة أن الطعام ينتج اليوم بكميات تكفي لسد حاجة كل إنسان يعيش على هذا الكوكب.والسبب الأساسي للجوع هو الفقر، فملايين الأسر في أنحاء العالم اليوم ليس لديها المال لتشتري الطعام، ولا تستطيع شراء أدوات الزراعة لتقوم بنفسها على إنتاج غذائها. هؤلاء التعساء الذين يعيشون على أقل من  دولار واحد في اليوم  لا يحصلون على كفايتهم من الطعام ومياه الشرب النقية والسكن الآمن والنظافة، إضافة إلى الصرف الصحي وخدمات الرعاية الصحية. والجوع وسوء التغذية على العموم يؤثران في مجموعتين هشتين من الناس بدرجات متفاوتة، المجموعة الأولى هم أطفال ما قبل المدرسة، حيث يوجد ملايين الأطفال الذين  يعانون نقص الوزن بسبب الجوع الحاد أو المزمن وغالباً ما يكون جوع أولئك الأطفال ميراثاً من أمهات يعانين سوء التغذية. ويؤثر نقص التغذية في أولئك الصغار، فيجعلهم أقل حماساً للعب والدراسة؛ وكثير منهم يخفق في الحصول حتى على تعليم بدائي. كما أن الملايين من أولئك الأطفال يتركون المدارس قبل إتمام دراستهم. كذلك يؤثر الجوع المزمن في النمو العقلي، وتبلغ المأساة ذروتها حين يتعرض هؤلاء الأطفال إلى أمراض معدية، إذ تقتلهم بسهولة أكبر مما لو أصابت أطفالاً يحصلون على غذاء جيد. أما المجموعة الثانية من الناس الذين يمكن أن يكونوا ضحايا الجوع أكثر من غيرهم، فهي مجموعة النساء والبنات، فبعض الدراسات البحثية تقر أن أكثر من ستين في المائة من جياع العالم من الإناث. ومع أن النساء المنتج الرئيسي للطعام في معظم أنحاء العالم، فإن البنية الاجتماعية والأعراف السائدة غالباً ما تؤدي إلى حصول النساء على طعام أقل مما يحصل عليه الرجال .ولعل المعادلة الأصعب التي ستبقى وصمة عار في تاريخ النظام الرأسمالي العالمي أبد الدهر. حيث أخفق في تحقيق وعوده بحل مشكلة الجوع في العالم. ويبدو أن الأساس لأي خطوة عملية للقضاء على الجوع وسوء التغذية هو تحقيق نمو اقتصادي سريع للناس الفقراء؛ وخاصة في الريف، لأن الاستبيانات تؤكد أن خمسة وسبعين في المائة من فقراء العالم يعيشون في المناطق الريفية، فلا غرابة أن تكون تنمية الريف وتطوير الزراعة فيه هما العاملين الحاسمين في القضاء على مشكلة الفقر وبالتالي الجوع. على الرغم من أن أقوى آليات محاربة الفقر المدقع والجوع تتمثل في تشجيع مستويات النمو الاقتصادي العام، فإن المد المرتفع لا يكفي بالضرورة لدفع جميع القوارب. من الممكن أن يرتفع متوسط الدخل، لكن إذا كان توزيع الدخل غير عادل  فإن استفادة الفقراء ستكون قليلة،ومن ثم تستمر جيوب الفقر. فضلاً عن ذلك، فإن النمو الحقيقي لا يرتبط مباشرة بمفهوم السوق والتجارة الحرة، إذ يتطلب توفير الخدمات الحكومية الأساسية،مثل البنية التحتية والصحة والتعليم والابتكارات التقنية والعلمية. ومن ثم فإن العديد من التوصيات التي قدمت خلال العقدين الماضيين من  الولايات المتحدة الأمريكية؛ والتي تدعم قيام حكومات بلدان الجنوب الفقيرة بتخفيض مستويات إنفاقها لكي تفسح المجال للقطاع الخاص، قد أخطأت الهدف. لأن الإنفاق الحكومي الموجه نحو الاستثمار في المجالات المهمة يعد في حد ذاته دعامة حيوية للنمو، وبصفة خاصة إذا تم توجيه تأثيراته نحو أفقر الفقراء في المجتمع.                                                                                                                     إن كسب المعركة ضد الفقر لن يفيد الجياع فحسب، بل سوف يعود بالفائدة على المجتمع. فالجياع  قوة معطلة كما أنهم شريك هزيل في أية حرفة أو مهنة. واستئصال شأفة الجوع وتحرير الجياع من هذا الطارق اللجوج سيكون عملاً قيماً، فلدى دول العالم الموارد والمعرفة لكسب المعركة مع الجوع؛ لكن يبدو أننا لم نملك الإرادة من أجل ذلك.وبذلك يبقى الجوع معضلة إنسانية تتحمل وزرها جميع حكومات العالم .ويبقى الجوع  وصمة عار في  تاريخ الجنس البشري لأن المملكة الحيوانية في البرية  المفتوحة لا تعرف مثل هذا  الجوع القاتل