المثقفون والحركة الشعبية
تطرح الأزمة الوطنية الكبرى التي تعيشها البلاد في كل يوم ومع كل حدث جديد وطارئ يمر بها، أسئلة جديدة وكثيرة، لا تتعلق بحجم المشكلات، ومدى عمقها، والكيفية التي يمكن أن تكون عليها الحلول أو المخارج فقط، وإنما ترتبط أيضاً بالقوى الموجودة في البلاد وقدرتها على المساهمة في الحل، سواء كانت جماعات أم أفراداً، ويفترض أن يكون على رأسها النخب المثقفة.
لماذا لم يستطع المثقفون في سورية المشاركة بشكل فعال في تقديم الحلول الواقعية للأزمة الوطنية الراهنة؟! أو على الأقل عدم فعالية دور المثقف كما يجب أن يكون، بما فيه إمكانية توجيه الحركة الشعبية وقيادتها؟!
إن غياب الحريات السياسية في المجتمع على مدى عقود أدى لشلل فاعلية القوى الحية في المجتمع، وحكم بالإعدام على أية مبادرة إبداعية سواء في الحقل السياسي أو الثقافي، وأوجد هوّة واسعة وفراغاً كبيراً بين الجماهير والنخب السياسية والثقافية التي من المفترض أنها تعبر عن مصالحها.
يضاف إلى ذلك أسباب موضوعية تتعلق بالظرف الراهن، وتحديداً بارتفاع درجة العنف، وكما هو معروف، عندما يتقدم العنف إلى الأمام يتراجع دور العقل إلى الخلف أو يغيب، كما أن ظهور ظاهرة العنف المضاد ولو كان جزئياً حتى الآن، أو اقتصر على مناطق محددة، ساهم في تغييب دور العقل وإمكانية أن يلعب دوراً في تفعيل الحراك الشعبي ويدفعه إلى الأمام.
وهناك أسباب أخرى متعلقة بمستوى وعي الحركة الثقافية في سورية وطريقة تفكيرها وتعاملها وتفاعلها مع الحدث والمتمثلة بالدرجة الأولى، بتقديس العفوية والسير في ذيل الحركة الشعبية، عوضاً عن المشاركة في توجيهها وقيادتها، على الأقل من خلال المساهمة في تصحيح وإعادة صياغة شعاراتها، وهتافاتها، بما يؤدي إلى بلورة اصطفافات حقيقية تذهب إلى نهاياتها في تحقيق التغيير المطلوب.. بل ذهب البعض إلى قبول كل ما يصدر عنها، وأكثر من ذلك، قبول حتى أخطائها بدل انتقادها حرصاً وغيرة عليها، وهذا السلوك كان نتاج أمراض مزمنة تعاني منها بعض النخب الثقافية التي تبحث عن المجد الشخصي، وولوج دائرة النجومية والشهرة على أكتاف الحركة الشعبية بعد أن فشلوا في حقول إبداعية أخرى من جهة، ونتاج الابتعاد عن الحراك، ومتابعته من الخارج، وعدم الاحتكاك به بشكل مباشر ومعرفة ما يريده من جهة أخرى.
أما الوجه الآخر للمشكلة فيظهر عند مثقفي السلطة الذين وضعوا أنفسهم في خانة الدفاع عن النظام على طول الخط، وتبرير كل ممارساته أملاً في المزيد من المكاسب والامتيازات التي لا تأتي إلا من خلال الدوران في فلك النظام.
إن كل ما سبق يقود إلى الاستنتاج أن كلا الموقفين ليس قاصراً فقط عن تأدية دوره والمساهمة في وضع الحلول للازمة، بل إنهما في العمق - رغم ما يبدو من اختلافهما في الشكل - يعبران عن الموقف ذاته في المضمون، وكي تتمكن النخب الثقافية من إنجاز دورها الحقيقي المطلوب المجرد عن أمراض الحقل الثقافي المعرفي السائدة، عليها أن تعود إلى ذاتها كفئة منتجة للمعرفة، وتنخرط فعلياً في الحراك العام من خلال تبني مطالبه المحقة، والمشاركة فيه قولاً وفعلاً من جهة، ونقد الأخطاء التي يمكن أن تظهر فيه من جهة أخرى.