الشَّبح..

الشَّبح..

 وصولي إلى سوق الجمعة الذي أزوره مرة كل شهر للتفرّج وشراء ما تيسّر من (لقطات)، استرعى انتباهي شابٌّ في مقتبل العمر يقف تحت شجرة وقد علّق على كتفه حقيبة سوداء متوسطة الحجم وحوله مجموعة من الشبّان يتفاوضون معه. وبين الحين والآخر يمدّ يده إلى حقيبته بعد أن يلتفت إلى الجهات كافة ويخرجها بسرعة ويدسّ شيئاً ما بيد المشتري بعد أن يقبض الثمن.

الفضول سيذبحني إذا ما بقيت ساكناً. هرعت إليه لأتقصّى وأنا شبه موقن من أنه يبيع موادّاً غير مشروعة. اقتربت منه متوجساً فقد تلقي إحدى الجهات الأمنية القبض عليه وعلى من حوله، وجدته وكأنه يتهيّأ للمغادرة. اقتربت منه أكثر وقلت له هامساً بحذر: «لا تخشى شيئاً، أريد أن أشتري منك.. هيّا»! 

نظر صوبي وقال لي: «وهل تعلم ماذا أبيع؟»

قلت له: «لا.. لكنني مستعدّ أن أشتري منك أيّ شيء!» 

تمعّن قليلاً بي وقال: «أنا أبيع شريطاً مسجّلاً ولم يبقَ منه سوى نسخة واحدة».

قلت له وقد انفرجت أساريري: «سأشتري منك هذه النسخة.. بالرغم من أن الإنترنيت بات يغنينا عنكم. ففيه آلاف المواقع الإباحية..»

ابتسم وأجاب: «لا.. الشريط ليس كما تبتغيه. إنه مقطع مسجّل خلسةً لبعض السياسيين..»

وهنا ازداد فضولي اشتعالاً وقلت له بشوقٍ ولهفة: «أرجوك أنا أعمل بالسياسة ويسعدني أن تزوّدني بما لديك..»

صمت برهة مفكراً وقال: «سوف أقدّمه لك هدية إذاً». ومدّ يده إلى حقيبته وأخرج منها شريطاً بعد أن التفت يمنةً ويسرةً كالعادة. خطفته منه بمهارة نشّال ودسسته في جيب معطفي وقبّلته شاكراً وقفلت عائداً بسرعة إلى البيت. ومن فوري شغّلت الشريط وإليكم التفاصيل كما شاهدتها:

المكان: قاعة كبيرة، مكتب وثير أسطوري بفخامته. يقف خلفه رجلٌ يرتدي بزّة رسمية وتبدو عليه الأناقة الزائدة. لكن ملامحه غير محددة فهي تظهر وتختفي، وسوف نطلق عليه اسم: «الشَّبح!». وهو يتحدّث بالفصحى تارةً وباللهجة المحكية تارةً أخرى. ويقف قبالته رجل وقد أدار ظهره للكاميرا، وبالتالي لم نتمكّن من معرفته. وبالرغم من أن التصوير بالأبيض والأسود ومشوّش قليلاً إلا أن الصوت واضح تماماً. 

الشَّبح (بصوت الواثق وحكمة الدارس المخطط): «شوف! الحلّ السياسي للأزمة بات قريباً شئنا أم أبينا.. لذلك علينا رصّ الصفوف وتجهيز أنفسنا للمرحلة القادمة. يجب أن نفكّر بعقل بارد وبقلب حامي. علينا أن نمرّق ما استطعنا إلى ذلك سبيلا، القوانين والتشريعات التي تضمن ليس فقط مكاسبنا الحالية، بل وزيادتها مستقبلاً. لذلك قل لأخوانك: “قانون التشاركية” يجب أن يصدر سريعاً وحتى بدون إجراء أيّ تعديل على فقراته وموادّه. واللّي ما عجبوا يضرب رأسه بألف حيط.. مفهوم؟».

الرجل الآخر: «مفهوم سيدي، بس يعني الحقيقة نحن محرجون جداً؛ فمن جهة، مشروع القانون كان نائماً بأدراج الحكومة منذ عام 2009 و..» 

الشَّبح (مقاطعاً بنزق): «آنذاك لم يكن الظرف ملائماً لإصداره. نحن الآن في المرحلة الذهبية. قلائل من يهتم بما يصدره المجلس من تشريعات. لذلك خلّينا نضرب ضربتنا ونحضّر حالنا لقانون تاني..»

الرجل الآخر: «مفهوم سيدنا، بس والله في بالمجلس أعضاء فهمانين كتير بالاقتصاد.. وبيفصفصوه لمشروع القانون فصفصة.. وبيني وبينك باكل همّ وقت اللي بيجي دور الواحد منّن بتقديم مداخلته».

الشَّبح (بخيلاء وصلف): «خلّيهم يعلّكو حكي، مين رح يردّ عليهم! بعدين لا تنسى نسبتهم الضئيلة بالمجلس، أي يا دوب يشكّلوا 2% ..»

الرجل الآخر: «طيب سيدنا خلّينا نفكّر شويّة، لأنه بصراحة مشروع القانون فيه كتير ثغرات و..»

الشَّبح (صارخاً بغضب): «ما معنا وقت يا بني آدم! يالله لشوف هزّلّي اكتافك وحضّرلي حالك لقانون الاستثمار الجديد.. (بصوت أعلى) ولك يالله شو ناطر؟»

الرجل الآخر: «حاضر سيدي حاضر!»..يتعثر بـ«التربيزة» وهو يهمّ بالخروج مشلوشاً...