الدراما التلفزيونية.. والحد من الخيال!
إن الدراما تحمل صفة الفعل، لأنها من نواتج الفعل البشري، ولا يمكن لنا أن نقول الدراما هي حدث، لأن الحدث يمكن أن يكون من غير صنع الإنسان، أما الفعل فهو من صنع الإنسان، وأقرب تعريف للدراما، هي الفعل المُمَثل، أو القصة المُمَثلة، والدراما هي صنيعة الإنسان، وصناعة الإنسان تكون أفعالاً لا أحداثاً.
إن الدراما في هذه الأيام تلعب دوراً كبيراً، لكونها أولاً تحمل في طياتها القصة، والصورة معاً، وهذه الثنيئيات لا يمكن مقاومتها من الإنسان، الدراما مع تطور وسائل الاتصال الجماهيري، أصبحت تلعب دوراً كبيراً في التأثير على الناس، من حيث الأفكار والمعتقدات، وتغيير التوجهات، وتغيير التصورات، وتشكيل ورسم الصورة حول فئات المجتمع بشكل عام، إن للدراما دوراً كبيراً في التعليم والتربية، دوراً في محاربة الفساد، وبناء القيم، وحشد التأييد.
فالدراما كان لها دور كبير في تعميم صورة المحامي الفهلوي، الذي يقلب الحق باطلاً، فالمحامي ظهر في كل الأفلام المصرية على أنه مرتشٍ، متآمر من أجل مصالحة الشخصية، وهذا على سبيل المثال، بالتالي فإن هذه الصورة تعمم لتصبح صورة المحامين بشكل عام، صورة سلبية، صورة كل صفاتها سلبية إلا ما ندر، ونلاحظ أن صورة الصحفي في الدراما المصرية على سبيل المثال للحصر، تظهر ذلك الشخص الذي يبحث عن الحقيقة، ويحاول قدر الإمكان أن يتوصل إلى الحقائق، وهي صورة إيجابية، وبالتالي هذه الصورة تنسحب على صورة الصحافي في كل مكان، وترسم الصورة من خلال الدراما للصحافي وللمحامي، ولرجال الأمن، وللأطباء، وللمهندسين... الخ.
تقوم الدراما بأكثر من دور في المجتمع، ولأنها كذلك، يجب أن يكون لها علم خاص بها يسمى علم الدراما، لكون الدراما من الفنون التي عمرها من عمر الإنسان، ولأن فيها الكثير من الجزيئيات التي تحتاج إلى دراسة، وهذه الدراسات من الممكن أن تكون لها أهمية في تنبيه كُتاب الدراما، وصناعها في توجيههم نحو بناء القيم والمفاهيم الجيدة في المجتمع، وتغيير توجهات المجتمع نحو الأفضل.
لكننا أمام تساؤل كبير، يحتاج إلى الكثير من الجهد من أجل إثباته، ومن منطلق التجربة الشخصية، يمكنني اعتبار نفسي عينة بحث، وذلك للإجابة عن سؤال المقال، هل يوجد دور للدراما في الحد من الخيال؟.
كما أن للدراما دوراً في كل شيء تقريباً، فإنه يوجد لديها دور كبير في الحد من خيال الشخص، ومن تخيله، وخاصة عندما تعقد مقارنة بين الروايات التي قرأتها، قبل أن تُمثل، تلك القصص والحكايات والروايات، التي أنهت خيال القارئ أو المستمع بمجرد أن مُثلت، أن الرواية أو القصة لها ثلاثة أجزاء مهمة، هي المكان والزمان والشخصيات. ناهيك عن الحبكة والعقدة وغيرها، لكننا لن نتحدث إلا عن المكان والزمان والشخصيات للدليل على دورها في الحد من الخيال.
مازلت أقرأ كثيراً، ومازلت أحب القراءة، ومازلت أفضلها على كل شيء، ولكن مع التطور التكنولوجي الحديث، صارت معظم الروايات والقصص والحكايات تُمثل، وخاصة في التلفزيون، والسينما.
كنت أتصور المكان الذي تدور فيه أحداث رواية علاء الأسواني، عمارة يعقوبيان، وكنت أتخيل الشخصيات، وأتخيل الزمان أيضاً، ولكن عندما مُثلت الرواية، شاهدتها كفيلم صور، انحصر خيالي بتلك العمارة السكنية التي كان يسكنها الأبطال، وتدور أحداث الرواية فيها، وانحصرت الشخصيات بالفنان المصري عادل الأمام، ويسرا، ونور الشريف، وسمية الخشاب، وخالد الصاوي، وغيرهم، فكان الصراع بين الشخصيات التي رسمتها لهم خلال القراءة، والشخصيات التي مثلت هذه الأدوار بعد إنتاجها كفيلم سينمائي، فوجدت أن الاختلاف بين الرواية والفيلم كبير، وأن الشخصيات الروائية التي رَسمتُها من صنع خيالي كانت أفضل، من عبقرية عادل الأمام، ويسرا، ونور الشريف، وأن المكان الذي تخيلته أثناء القراءة كان أفضل بكثير من تلك العمارة السكنية، ومن ذلك البار، ومن تلك الشوارع التي صُورت في الفيلم السينمائي.
عندما كنا صغاراً كان جدي يحكي لنا قصة الزير سالم، كان قصة جميلة، وتحكي القصة علاقة الزير مع أخيه كليب، والصراع الذي دار بين قبيلة تغلب وبكر، كل هذه الأحداث الطويلة التي كانت تستمر روايتها أكثر من ثلاثة أيام، كان جدي يرويها ويروي معها الشعر، والحوار، وكنا نرسم شكل الشخصيات، وشكل المكان الذي تدور فيه القصة، وشكل الزمن، لقد كان الزير سالم في مخيلتي، يختلف كثيراً عن الممثل السوري سلوم حداد، كنت قد رسمت له شخصية مختلفة، رجلاً كبير الحجم، قوياً، قادراً على قتل الأربعين رجلاً بضربة واحدة، الخيال الذي مزقته صورة المكان الذي مُثل في إحدى مناطق سورية، رسمت للمكان شيئاً آخر غير الذي شاهدته.
كما أن رواية باب الشمس للكاتب إلياس خوري، ورواية ذاكرة جسد لأحلام مستغانمي، هذه بعض الشواهد التي جربتها على نفسي بمحض المصادفة، وأنا أعتقد أن هناك الكثيرين الذين يشاطرونني التفكير بهذه الطريقة، أن الدراما التلفزيونية قد تحد من خيال المشاهد، لأن تصوره ينحصر في الشخصيات التي تُقَولب جاهزة، من المخرج، وأن المكان يُقولب له جاهز، وقد لا تشعر بالاختلاف ألا عندما تقرأ رواية أو تسمع قصة، وتشاهدها بعد ذلك على التلفزيون، فتشعر بالفرق بين الذي كنت تتخيله، وبين الذي تشاهده، فتشعر بالحسرة، أهذا «الزير سالم» بطل الرواية؟ أهذا المكان الذي تخيله؟ أهذه الجليلة؟ ليتني لم أشاهد هذه القصة التلفزيونية.
إن انحصار الخيال، لم يكن مقصوداً، إن تطور صناعة الدراما، جاء طبيعياً، مع تطور التكنولوجيا، ولكننا عندما ننظر إلى الإيجابيات والسلبيات، بين المشاهدة والقراءة، نجد أن القراءة أفضل ألف مرة، وفي الوقت نفسه تعطي الإحساس الذي يفوق الإحساس بالمشاهدة، في القراءة تقمص الشخصيات يكون أجمل، عندما تنهمك في تفاصيلها ستجد أنك تعيش في عالم آخر غير الذي تعيشه، إنه عالم يصنعه خيالك والرَّ اوي، ولكن تأثير الرَّاوي يكون قليلاً، أما الدراما التلفزيونية فإن الخيال يكون قليلاً، لأن الصور قد صنعت من المخرج، وقولبت مسبقاً، لدرجة أنك لا تستطيع أن تتخيل، «إن التفكير مستحيل بدون صورة»، كما يقول أرسطو، ولكن أن الخيال ينحصر بالصورة، فتصبح الصورة هي حدوداً للخيال الذي تعتقد أنه الحقيقة.
■■