أنماط القولبة والتعليب
على شاشات التلفزة.. عبر الإذاعات.. في أية صحيفة محلية أو إقليمية أو عالمية.. وعبر صفحات الإنترنت.. وحتى على جهاز الهاتف المحمول.. لا يكتفي المتابع لآخر التطورات الدموية مما قد يراه أو يسمعه ولن يصاب فضوله اللاهث وراء الحقيقة الضائعة بالتخمة، فلابد من جديد أو عاجل في مكان ما، يختال بلونه الأحمر الجذاب ليشعل أسئلة بدلاً من أن يطفئ أخرى، عندما تبدأ شياطين الظن بالاستيقاظ ويضيق العقل بما يتعرض له من أخذ ورد ومد وجزر ليقترب إلى الصورة الأكثر إقناعاً والأوضح ظاهرياً، والأقرب إلى هوى توجهه الفكري حتى يستأنس بها بعيداً عن تناقض وتشتت قد يوصله حد الجنون. ..
إلا أن المثير للاهتمام هو إثارة نوع قديم جديد من «الأمراض الإعلامية» -إن صح التعبير- في خضم المعمعة الفكرية التي يشهدها الجسم الثقافي والإعلامي العربي، يسمى الصور النمطية. ومن المثير للسخرية أيضاً أن العرب على العموم من أشهر ضحايا هذا التوجه الإعلامي السلبي منذ زمن ليس بالقريب لكنه اليوم يستقوي به بعضه على بعض عن طريق التركيز على صور نمطية وقوالب جامدة، توسع الهوة بين أطراف النزاع على الأرض بدلاً من أن تحاول ردمها لتغدو ردود الأفعال المتسرعة والعصبيات الطائفية والمذهبية مباحة ومشروعة. من جانب آخر قد يحاول البعض تبرئة المشرفين على هذا التسلط الفكري الخبيث بتصنيف تلك التصرفات في خانة التعميم كصفة من صفات العقل البشري إلا أن ما نشهده اليوم يتمايز عن ذلك بشكل فاضح .فالتعميم وإصدار الأحكام العامة من أكثر الأخطاء الفكرية تكراراً لدى الإنسان.. وهو يحدث بشكل عرضي لا إرادي.. وذلك لأن عقولنا محدودة وحوادث العالم غير محدودة.. وهناك الكثير من الوقائع التي قد تحدث في امتدادات زمانية ومكانية بعيدة عن حواسنا.. ونحتاج إلى إصدار أحكام عامة عليها لكي نستطيع استيعابها والتعامل معها. لكن عملية التعميم الفكرية العرضية هذه الناتجة عن قصور العقل البشري، ونقص المعرفة والمعلومات تختلف تماماً عن الاعتداء الإعلامي على الآخرين بعملية القولبة وتصنيع الصورة النمطية السلبية. إن مفهوم الصورة النمطية (Stereotype) مفهوم مستعار من عالم الطباعة، ويعني الصفيحة التي تستخدم لإنتاج نسخ مطابقة للأصل.. وتم استخدام هذا المصطلح ليصف ميل الإنسان إلى اختزال المعلومات والمدركات.. ووضع الناس والأفكار والأحداث في قوالب عامة جامدة، بحيث يمثل رأياً مبسطاً، أو موقفاً عاطفياً، أو حكماً متعجلاً غير مدروس، يتسم بالجمود وعدم التغير. وتصنيع الصورة النمطية عملية إعلامية متعمدة مخطط لها لاختزال وتبسيط مخل للصورة العامة لشخص، أو جماعة، أو فئة اجتماعية، أو شعب، بحيث تختزل في مجموعة قليلة من السمات تستدعي ردود أفعال معينة من الجمهور. وللأسف تزداد تعقيدات مشكلة القولبة والتنميط وخطورتها لأنه لا مجال للأفراد لاختبار سمات أية صورة نمطية أو التحقّق منها من خلال الخبرة الشخصية، لأن وسائل الإعلام أصبحت هي المصدر الرئيس لكل أفكارنا وتصوراتنا عن الدول والشعوب والثقافات والديانات، وحتى عن ذواتنا، ولأن هذه العملية مقصودة ومتعمدة تتم عملية القولبة والتنميط وتصنيع الصورة النمطية السلبية بإلصاق وتعميم مجموعة من السمات السلبية والصور الكريهة والأوصاف المنفرة على المستهدف أولاً.. ثم تقوم وسائل الإعلام بالتأكيد على هذه السمات والمبالغة فيها، وتكرارها، وتوضيحها، وترسيخها حتى تتلاشى
أي جوانب إيجابية أخرى في صورة المستهدف، عندها تقوم وسائل الإعلام بالبحث عن أي شواهد، أو أحداث أو ممارسات، مهما كانت نادرة، لتأكيد الصورة النمطية السلبية وترسيخها. وبمرور الوقت يتم إحكام عملية القولبة والتنميط وتتابع الزمن والتكرار المستمر والعمل الدؤوب في إبراز الصورة النمطية السلبية وتنوع أساليب عرضها واختلاف طرق معالجتها واستخدام وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية لخدمة هذا الغرض. والأمثلة على ذلك كثيرة وقد شهدناها كسوريين من خلال متابعاتنا اليومية أولاً بأول، فكانت القولبة من أهم الأسلحة المستخدمة من قبل عناصر الأزمة لفرض سيطرته الفكرية على الجمهور المتلقي والذي انتهى بكونه الخاسر الأكبر بل حتى الوحيد. فالتغييب المتعمد للشعور الوطني لدى السواد الأعظم من السوريين سمح بتسلل ولاءات أكثر انحلالا وتبعيات أكثر تطرفاً ساهمت في تعزيز الاصطفافات الوهمية بين أبناء وطن واحد، وسترسخ ثقافة التوجس من الآخر ليتعمق الشرخ ولتتجمع «القطعان» البشرية في كيانات مقسمة بحجة الدفاع عن أبناء ملتها ضد شر مصطنع ساهمت تلك القوالب المتطرفة في صياغة ملامحه، وإن كان للنظام السياسي الحاكم الأثر الأكبر في خلق وتغذية هذه التصرفات من خلال سياساته الإقصائية والاستغلال الوقح للقمة العيش، وصم الآذان عن ضرورات تاريخية في التطور والتجديد ما لبثت وزعزعت أساساته إلا أن البعض الآخر قد تمادى في الرد على هذه المنهجية، منطلقاً من منطق أضيق وأكثر تطرفاً تغذيه ماكينة إعلامية تتعمد إعادة تعريف الكثير من الثوابت الفكرية لتتوافق مع طروحاتها المشوهة، فيتبنى بعضها طائفة معينة كراع رسمي للحراك الشعبي في مواجهة طائفة أخرى، ويستشرس البعض الآخر في الدفاع عن تعاملات مشبوهة لبعض أقطاب المعارضة لا يمكن إلا أن تقع في خانة الخيانة الوطنية، ويعمد الكثيرون منهم إلى اختزال الحراك الشعبي السوري أو بعض الانتفاضات العربية الأخرى كحركات انتقامية تنتفي الحاجة إليها لمجرد إسقاط رأس النظام، فتموت الثورة في المهد وتستبدل الأنظمة القمعية بأخرى دون إحداث أي تغيير حقيقي، كما تدعو الكثير من تلك الوسائل الإعلامية إلى تحييد ثقافة الحوار والتفاهم وتغليب قوة السلاح كحل وحيد أمثل للخروج من الأزمة حيث تجند كل قدراتها الإعلامية لترسيخ تلك الصورة في الأذهان، وتحفيز المتعاطفين معها على رفع وتيرة العنف الذي يعود للصدام مع عنف أجهزة الدولة فتبقى البلاد في حالة الغليان والاحتقان إياها، ومع ذلك لا يمكننا تجاهل ما أفرزته وسائل الإعلام الرسمية السورية في معرض دفاعها الذاتي في مواجهة مد إعلامي عربي وغربي خبيث متطور وممنهج، فالأمثلة كثيرة أيضاً عن قوالب إعلامية زادت من الصدع بين السوريين بدلاً من أن تعمل على توحيدهم..فالمتظاهر السلمي في نظرها كائن خرافي لا وجود له وجميع المتظاهرين «زعران»، أو من حملة السلاح، والمعارض -بالمجمل- هو عميل في مشروع كوني يستهدف ضرب المواقف المحقة للبلاد في المحافل الدولية، والتشديد على الفروقات بين كلمة «مظاهرة» وكلمة «مسيرة»، وهما في منطق التعبير السلمي عن الآراء سيان، وتشويه التاريخ السياسي لكثير من رموز المعارضة الوطنية والتعدي الإعلامي على تجمعاتهم والاستخفاف المبطن بمدى تأثيرها على الشارع، واستطلاعات الرأي المستفزة للمنطق والتي تشمل أسئلة بلاغية تستثير غرائز انتقامية بغيضة، دون أن ننسى بالطبع الجملة الشهيرة: «هي الحرية اللي بدكن ياها..!؟» التي أصبحت تتناقلها الألسن دون وعي في كل بقعة دامية في سورية وما أكثرها في هذه الأيام.. لها مكانها في كل مقطع إخباري.. لتصبح المتنفس الوحيد للبسطاء من الناس والذي ضاقوا ذرعاً بما يرونه يومياً من حقد.. فاستحالت شعاراً مترسخاً في الأذهان يربط بين أي عمل تخريبي وأي مطالب بأبسط الحقوق والذي أصبحت كلماته خطراً على الأمن والأمان والسلم الأهليين!!! يمكن القول أن الصورة النمطية السلبية التي تقوم وسائل الإعلام بتصنيعها ورسمها لبعض الشعوب والثقافات، وكذلك بعض الاتجاهات السياسية والفكرية، تهدد بانفجار الكثير من الصراعات، وزيادة حدة الكراهية في منطقة عانت وستعاني منها الكثير، بل إنها تعطي المشروعية لهذه الكراهية، وتبرر عملية الاعتداء على ضحايا الصورة النمطية السلبية، وتجعل العدوان عليهم شيئاً مبرراً ومفهوماً، لذا تبدو عملية فضحها وتسليط الضوء عليها ضرورية للغاية، لكن الخلاص النهائي من شرها لن يتحقق إلا بترسيخ إعلام وطني حيادي إصلاحي متطور لا يحمل أي صبغة سياسية أو طائفية ضيقة ولا ينحني أمام برميل النفط أو حفنات الأموال يستمد مصداقيته من الشعب الصادق البسيط الذي ستدفعه تلك التجاذبات الحاقدة –ولو بعد حين- إلى نبذ الأحقاد والالتفات إلى الشريك في الوطن، لأن الحقيقة عندها ستكون أوضح من أن تستتر تحت الركام والرماد وستسود لكن بأغلى الأثمان