«بين قوسين ... بؤس «المعارضة
«أين (سلتة) المعارضة اليوم»؟ يهمس محتج في أذن صديقه لكي لا يسمعه أحد من «المنحبكجية» فيشمت به.. فيجيبه صديقه بصوت خافت لا علاقة له بتاتاً بصوته المجلجل في المظاهرات الاحتجاجية: «في باريس!!»، وفي اليوم الثاني أو بعد فترة قصيرة، يكرر السؤال نفسه، بالطريقة والكلمات نفسها، فيجيبه الآخر: «في واشنطن!!»...
وهكذا دواليك.. يتكرر السؤال، وتتكرر العواصم الغربية والشرقية والشمالية والجنوبية.. أما «السلتة» لمن لا يعرفها أو يسمع بها، فهي ما كان يفعله «أشعب»، الطفيلي الشهير، النهم اللمّاح ذو الظل الخفيف والنوادر الطريفة، الذي قرأنا عنه الكثير في كتب التراث والكتب المدرسية، وهي ما تفعله «المعارضة» هذه الأيام بحجة «دعم الثورة السورية»، و«توحيد الرؤى والجهود» و«إقناع المجتمع الدولي بمساعدة الشعب السوري المنتفض».. ولكن بلا لون أو طعم أو رائحة أو جدوى، اللهم إلا إثارة القرف في النفوس من نخب سياسية منفوخة، لا تنتمي من قريب أو من بعيد للحركة الاحتجاجية الشعبية، والطرافة الوحيدة في «سلتاتها» المتكررة أنها كلما تحدثت أكثر خسرت أكثر، وكلما تجمّعت تفرّقت وتشرذمت، وكلما وعدت وتوعّدت وتمخّضت نفّست وتعرّت وتعثّرت وانكشفت عورتها!! فمن أنطاليا إلى لندن إلى الدوحة إلى نيويورك... لم تقدم هذه «المعارضة» لطالبي الحرية والكرامة الذين يواجهون الموت والعسف بصدور عارية وعيون حالمة، إلا خطابات تراجيدية أو حماسية فارغة لا تغني ولا تثمر، ولا يُشتم منها إلا رائحة العجز والأنانية والشبهة الوطنية..
واليوم، في ظل استمرار ضيق البلاد على أهلها، وهو الحق الذي طالما أراد منه البعض باطلاً، يجري الحديث عن «سلتة» جديدة وشيكة، وهذه المرة في استوكهولم، عاصمة بلاد الرفاه وحقوق الإنسان والديمقراطية ومنبع الشقراوات، وبالتالي فما ستسفر عنه هذه ٍِ«السلتة» من بيانات وخطابات وديباجات، بغض النظر عن صائغيها وانتماءاتهم وإيديولوجياتهم ولبوسهم، لا يمكن مقارنته – على الأقل من ناحية الشكل والوتيرة- بما صدر في الدوحة أو استنبول أو القاهرة، فهذه السويد، وما أدرانا - نحن الذين نقف على الحواجز يومياً فإما نعبر وإما نُعتقل أو نُهان- ما السويد؟
لا شك أن ليس جميع من في «المعارضة» مغرمين بـ«السلتة»، بل ثمة خادعون ومخدوعون، ومتعمدون وواهمون، فإذا كان بعضهم لا تتجاوز طموحاته حدودها، فإن بعضهم الآخر غايته أبعد منها بكثير، وبعضهم يقاربها كتحصيل حاصل، وبعضهم تغريه رائحة توابلها ولا ينتبه للسم المدسوس في دسمها، ولا لثمنها المؤجل، ولكن جميع من يحضر المائدة الخارجية يقيناً، ذهب في الاتجاه الذي لن يؤدي إلى الناس أبداً، خاصة إذا أدمن على مرقها و«لحمها» وابتسامات مقيميها، فبعدها لن تكون له شهية على البرغل الحوراني والزيت العفريني والكباب الحلبي، ولن تكون له عزيمة أن يحول الابتسامات الصفراء إلى «تكشيرات» أبداً.. لأن عينه ستنكسر إلى الأبد..
إنها «السلتة» أيها السادة «المعارضون».. إنها تلك الهوة السحيقة التي تفصل بينكم وبين من تدّعون، أو يُفترض بكم تمثيلهم.. إنها تلك المسافة البعيدة بين شراهة معظمكم للسلطة والنجومية والثروة، وبين تطلعات الناس للحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، إنها الفرق بين استمرار الاستعصاء الدموي الجاري في البلاد، وبين السير نحو الانفراج.. وفي هذا الإطار الكثيرون منكم ليسوا أقل إجراماً أو تسلطاً أو نهماً طفيلياً أو غباء ممن يقتلون الناس في الشوارع أو يعتقلونهم أو يحاصرونهم أو يروّعونهم أو ينكّلون بهم أو يجيشونهم ضد أنفسهم.. بل كلاكما آفة هذه البلاد وداؤها المزمن، وعلى الحركة الشعبية إن أرادت تحقيق أهدافها التي تدفع دماً للظفر بها، أن تتخلص منكما معاً.. ففي النهاية أنتما طرف واحد، لا يختلف بعضكم عن بعض إلا بالأسماء والصفات المؤقتة وأسلوب معاداة الشعب والاستخفاف به.
المجد للحركة الشعبية.. ما أصعب معركة وجودها واستمرارها... وانتصارها..