حول الأسطورة والإنسان
تمثل الأسطورة أول بناء ربط به إنسان ما قبل الكتابة الماضي بالمستقبل، الماضي باعتبار ما كان وهو ما ينجذب إليه، والمستقبل على اعتبار ما سيكون، يتطلع إليه في محاولة تلافي أخطار أو أخطاء حدثت له.
وعلى هذا تُصبح الأسطورة ممثلةً لتجربة الإنسان الماضية في حياته بجميع صورها ومحاولته بناء فعل جديد يقيم به مستقبله. وقد استطاعت أسطورة إنسان ما قبل عصر الكتابة أن تعبر الماضي إلى حاضر الإنسان المعاصر، وأن تمنحه رؤى جديدة للمستقبل، وقد خلع الباحثون والدارسون على الأسطورة تفسيرات شتى تاريخية واجتماعية وكونية .
حيث نزع التفسير التاريخي للأسطورة إلى «إن الناس الذين عاشوا في عصر الأسطورة وما حوله أرادوا أن ينقلوا إلى أسلافهم حقائق وضعهم القبلي، أو تاريخهم المحلي متوسلين بالرمز، ويُفترض أن تلك الشعوب القديمة نقلت بعناية الرموز والأساطير لأحفادها الذين واصلوا تردادها منذ ذلك الحين».
وأنصار هذه المدرسة في التفسير يرون في الأساطير أداة لحفظ التراث القبلي الذي يسجل انتصارات القبيلة وهزائمها واكتسابها لأشكال جديدة من الثقافة.
وعندما قدم ثيوجنيس Theagenes للأسطورة تفسيراً كونياً قال: «أن الأسطورة قراءة رمزية أكثر مما هي حرفية».
هنا يتقاطع تفسيره مع التفسير الاجتماعي للأساطير، وينحى بلوتارك المنحى نفسه أيضا في تفسير الأساطير.
وفيما يبدو لم يكن لإنسان ما قبل عصر الكتابة من طريق للتعبير عن موقفه سوى الأسطورة، سواء لموقفه الاجتماعي وإنجازاته الحياتية أو تفسيراته لبعض الظواهر الكونية وظواهر الطبيعة من حوله، حين كان عاجزاً عن الاستدلال، ثم طور أساطيره محاولا السيطرة على الطبيعة وإخضاعها لمصلحته متوسلا بالسحر، الذي أيقظ ثقة الإنسان بذاته فها هو لأول مرة يتمكن من السيطرة على ما حوله، وكانت أداة الساحر في إخضاع القوى الطبيعية والماورائية هي «الكلمة» و«الفعل الأدائي التمثيلي».
وعندما لم يكتف الإنسان بمحاولة إخضاع هذه القوى عن طريق السحر، لجأ للتفاهم معها وذلك عن طريق الدين، هنا تولد الصراع بين الساحر ورجل الدين، ذلك الصراع الذي حُسم لمصلحة رجل الدين لأنه التزم موقفاً أخلاقيا لم يلتزمه الساحر.
وفي القرن العشرين راج التفسير الاجتماعي للأساطير بين مفكري القرن العشرين، ورأى روجيه جارودي في تقييمه للأساطير: «أن هناك أساطير لا تخدمنا في شيء أو تؤذينا لأنها تقود إلى لا مكان وهناك أخرى توجهنا نحو المركز الخلاق في ذواتنا، وتفتح لنا آفاقاً دائمة الجدة و تساعدنا على تخطي حدودنا، أساطير مغلقة وأخرى مفتوحة، وهذه الأخيرة وحدها هي الأساطير الحقيقية». كما ذكر أن الأساطير التي لم تعجبه «ليست بالضرورة نتاج ذهنية بدائية فهناك أساطير من عصر العقل».
أياً كان فالأسطورة بجميع أشكالها وصورها هي نتاج مجتمع ومُعبرة عن هذا المجتمع، عن أشواقه وصراعاته وارتفاعاته وزلاته أيضاً، ويكفي دراسة أساطير مصر القديمة عن العقيدة الشمسية والعقيدة الأوزيرية لاكتشاف ورؤية وضعية المجتمع و صورة الصراع و مكانة الإنسان فيه. لنتأكد أن الأسطورة فعل ممتد في المستقبل، فإن هذه الأساطير صنعت فكر مصر القديمة وصنعت وجودها. كما أنها بتأثيرها في العبريين ساهمت في بناء دينهم وتفكيرهم، وكذلك بتأثيرها على اليونانيين ساهمت في بناء دينهم وفلسفتهم. ولم يتوقف تأثيرها على هذين الشعبين، وإنما امتد ليبقى تأثيرها واضحاً في معتقدات الإنسان في العصر الحديث متمثلة في دياناته .
ولقد تعرض كثير من الكتاب والأدباء والروائيين في العالم لتناول الأساطير العالمية والمحلية، وتسليط الضوء من خلالها على قضايا مجتمعاتهم ومنهم أيضا الكتاب العرب، فقد منحت الأسطورة المؤلفين مادة مكنتهم من صياغتها صياغة روائية في إطار الرمز الذي يكون جاهزاً دائما بالأساطير فيعفي الروائي من الصدام الدامي مع السلطة الحاكمة، في كل وأي وقت. فأصبحت الأسطورة مانحة الرمز ومانحة الموضوع .
ولكن يبدو أن استعمال الأسطورة في العمل الروائي جاء لإنتاج العمل التاريخي - ابتداء - لا لإبداع العمل الروائي ذاته، إلا أن المتلقي أستحسن استخدام الأسطورة تاريخياً، فوظفها المبدع في عمل نتاجه الروائي، ومن خلال الفهم العريض للجانب الأسطوري زاد الإقبال على العمل الروائي، فما كان من المبدعين إلا تدعيم هذا التوجه وتحميل شخصيات أبطالهم الخرافية تلك السمات الوجدانية التي يحملها أبطال الأساطير القديمة، وهذا الجانب السيكولوجي في تقنية الرواية ساعد على انتشار الرواية الأسطورية.
إن الأسطورة ذاتها قلبت وتعددت محاورها فلم تعد ذات طابع عسكري بحت، بل اشتملت على البعد الرومانسي والاجتماعي والفكري، وصاغها البعض بأسلوب أكثر واقعية مغاير لجوهر الأسطورة ذاتها. واتُخذت الأسطورة أداة من أدوات التشكيل الذهني، لأن المبدعين حاولوا تأكيد وإضافة قيم أخرى جديدة لإعادة التوازن بين الفئات المتصارعة على الساحة الاجتماعية، وذلك عبر توظيف العمل الأسطوري في رواياتهم، بل وساعدت الرواية الأسطورية على هدم قيم أخرى عند المتلقي.