رائحة دماء الياسمين
حيرةٌ أخرى تدرج لبوح العائد، عودةٌ لها لهفة الأرض لمعانقة السماء، أيلول المطر والاشتياق، رائحة الأنثى المبللة بقطرة المطر الأولى، طعم النبيذ المُشتهى، صوت فيروز المحفور بالذاكرة، وداعٌ مُحيِّر لشهرٍ أنصف الحالمين، أنقذهم من سُبات الأرق، وداعٌ لشهر اللوعة في عام الحرية.
حضورٌ يجاور الأصوات المزلزلة لإسفلت الطرق، منظر لا يشبه سابقه، مدرعاتٌ تحاصر الأسمنت، أسمنت يهوي على رصيف الحلم، مدرعاتٌ تحاصر مدرعات، أسمنتٌ يحاصره أسمنت. أدرك صراخ الحرية الرابط الأرض بالسماء، لم يجد العشاق مجتمعين في المقاهي، رأى الأصدقاء يبحثون عن أصدقائهم الغائبين في عامٍ استثنائي، شاهد الورود الذابلة خلف الزجاج المرفّه.. هو شاهدٌ على شهية الدم وفنون القتل كاملة، شاهدٌ على صراخ الأقبية، والجسد الباحث عن جسده في العتمة، وجعٌ من نوع مخالف لم يعهد مشاهدته، يحمله معه للعام القادم.
بصمت يغلق كتاب زيارته لهذا العام، وهو يرنو إلى أنين مدننا، يطوي صفحاتٍ مليئة بعنفٍ تستدركه دماء غير مألوفة، دماء تروي ظمأ الذين لا ظمأ لهم، وحدها حمص أخذت من دموعه الكثير، حمص وجعنا السوري الحاضر.. هي بوابة عبورنا للسماء، وإذ أنه قرر البقاء هنا، عرف أن للقتل نصيباً سلبياً، أما ما تبقى من أطرافٍ وحوافٍ أخرى.. يكون القتل كـ«البلدوزر» الجبلي يفتكُ ما تراه عينه من خطاً ونيازك معلقة بالأمل وأطياف النجاة، أصبح عارفاً بأن للجميع شهوة، تفوق الاشتهاء لغيوم السماء الحبلى بالأمطار، عرف شهوة الحرية المتآخية مع أصول الديمقراطية، تعرَّف على تلاحم الأرض مع السماء، استمع للأصوات الصارخة في فضاء الأزقة.
عاماً إثر عام وهو ينتظر المشهد الحاضر، حتى يئس الانتظار، أربكه المشهد الحالي، بصمت نظر إلى الوجوه المُلتهبة من شمس آب، لم يغازلها إلا قليلاً، تناساها مؤجلاً هديته للعام القادم.
فواصلٌ مفتعلة، جملٌ إنشائية، وجعٌ عاطفي، أمل استثنائي، يترك خلفه ويهمُ بالرحيل، لا يملكُ وصفةً لداء القتل، وليس لديه حقنٌ للإنسانية المتعاليّة على شقيقها الإنسان، لم يعتد إلا أن يكون موّلداً للحب.. المطر.. رعشة الأرض الأولى لحظة مغازلة السماء لها، لم يعتد إنسانية الإنسان المستعصية ضمن وجودٍ ركيك الصفات، هش الأفعال، خفيف الخطا.
وحده عاري الإثم يطوي صفحة العام، على صورة الأرواح العارية.. الأرواح التي رحلت مراقبة حاضرنا القادم بمشيئتها، ذهبت حيث لها رائحة الياسمين، وللأرض هنا رائحة دماء الياسمين.
قصة الوداع.. تلوح لأيلول المغفرة.. على أملِ لقاءٍ آخر.. تلوح لمتبني تواصيف الحياة المتكاملة، وما بقيَّ من كلامٍ.. وحيث للنهاية شعور الرسالة الغافلة.. أثق بأنني لم أشتق إليكِ.