ابتزاز.. وقيود تكبل السينما في عصرنا
معركة حامية في هوليوود، هي أكبر أحلام وسائل الإعلام، حدث ما يشد كرب القيود الملفوفة على رقاب «الجمهور»، فرصة للصحافة الصفراء اللغو والشتائم، مبارة يحمل كل طرف فيها دلائل تخصه وتثبت انتصاره في هذه المعركة، التي تكون في أغلب الأحيان معارك على حقوق مهضومة لسيناريو ما أو قضايا تفصيلية أخرى لا قيمة جدية لها.
المعركة مختلفة الآن، على الرغم من كل اللغو والشتائم التي ترافقها لكنها هذه المرة معركة «حياة أو موت».
ابتزاز وتضييق
نقلت وسائل الإعلام في الأيام الأخيرة من العام المنصرم، وقائع معركة بين المخرج الشهير والإشكالي كوينتين ترانتينو «Quentin Tarantino» وشركة ديزني «Disney» المالكة للفيلم الشهير حرب النجوم «Star Wars»، وكان من المقرر أن تعرض شركة ديزني فيلمها في مسرح «Cinerama Dome» لأسبوعين ومن ثم يُعرض فيلم ترانتينو الجديد (الثمانية الحاقدين) «The Hateful eight» في الصالة نفسها حسب العقد الذي وقعه معهم، لكن شركة ديزني حسب تصريحات ترانتينو قررت أن تمدد عرض فيلم حرب النجوم لشهر بدلاً من أسبوعين، هذا يعني أن تقوم «Cinerama Dome» بإلغاء عقدها مع ترانتينو، رفضت صالة العرض في بداية الأمر هذا الطلب لكن شركة ديزني الضخمة هددت بحرمان «Cinerama Dome» من عرض فيلمها الجديد بأي من صالات عرضها الكثيرة.
فيلم حرب النجوم يعد من الأفلام الرائجة ويترقبه الآلاف، وهذا يعني ربحاً مخيفاً يمكن أن تحرم منه صالة العرض إذا ما التزمت بعقدها مع ترانتينو، لذلك كان الخيار سهلاً بالنسبة لهم فألغوا هذا العقد المشؤوم ومددوا مدة عرض فيلم شركة ديزني لشهر بطوله، وهذا كان كفيلاً لإعلان حرب من قبل كونتين ترانتينو، المخرج «الغاضب أصلاً» الذي وصف تصرف الشركة بأنه «انتقامي، ومنحط، وابتزاز».
هو بالفعل ابتزاز وتضييق، تستطيع شركة مشبوهة بحجم ديزني القيام به دون أي رادع، حتى وإن كان ضد أشخاص لهم سطوتهم في هوليوود كـ «ترنتينو» الذي يحمل بالنهاية قيم هوليوود. حاول البعض تفسير هذا التصرف المبهم بأنه ربما يكون مرتبطاً بهجوم ترانتينو الشرس على الشرطة الأمريكية وأعمال العنف التي تقوم بها في الاحتجاجات التي شهدتها بعض المقاطعات الأمريكية، وتصدر وكالات الأنباء أخبار مشاركته في تظاهراتٍ ضد ممارسات الشرطة يحمل فيها لافتة يتهمهم فيها بأنهم مجرمون، لترد الشرطة بنشر بيانات تهاجم بها ترنتينو وتحتج على أنه لطالما حاول ترسيخ صورة للشرطة تبدو فيها ملامح الفساد والإنحلال.
70مم القطبة المخفية
ما تحاول وسائل الإعلام تجنب الخوض فيه هو أن فيلم «The Hateful eight» هو حالة خاصة بالمعنى التقني، فقد جرى تصوير هذا الفيلم على شريط ذو مقاسٍ كبير (70مم)، فمقاس الشريط المتتداول في صناعة السينما هذه الأيام هو 35مم، أي أن فيلم «The Hateful eight» سيكون ضعفي الحجم، وهذا يتطلب أجهزة عرض من نوع محدد تكون قادرة على عرض هذا الفيلم بالإضافة للشاشة خاصة هائلة الحجم، وهو ما يتميز به مسرح «Cinerama Dome» الذي كان يفترض أن يستضيف الفيلم على شاشته تلك.
يمكن الخوض في هذه التفاصيل التي تبدو مجرد تفاصيل تقنية للوهلة الأولى، لكنها في الحقيقة أبعد من ذلك وأبعد من الدوافع التي انطلق منها ترانتينو فهي لا تتعدى بالمجمل كونها ترفاً يخص نخب هوليوود التي ينتمي لها.
يبدو ظاهرياً أن السينما تتطور من ناحية تقنيات العرض كغيرها من المجالات، لكن الوضع مختلف خصوصاً إذا ما علمنا أن شريط الـ 70مم هذا يعد ذروة التطور التقني الذي وصلت له السينما والذي لايزال يتفوق على كل الثورة الرقمية التي شهدتها السينما. لكن المشكلة كان بأن هذا الشريط كان مشؤوماً بالنسبة لشركات الإنتاج ولدور العرض بالدرجة الأولى نظراً لتكاليفه، فتآمروا على هذا الإنجاز التقني لأنه ببساطة لا يخدم فكرة الربح التي تحكم السينما اليوم، مما أدى إلى توقف استخدام شريط الفيلم هذا في أواسط الستينات، على الرغم من أن كل الجوانب التقنية التي ترتبط بالسينما كلها سواء بطرق العرض أو تصوير وتسجيل الصوت، هي أمور حيوية لا يجب إغفالها كونها تساعد على زيادة التأثير بالجمهور، الأمر الأساسي الذي تتوقف عليه كل العملية!
إذا ما استمعنا لتعليقات طاقم عمل هذا الفيلم عن تجربتهم مع هذه التقنية الحديثة – القديمة، نشعر وكأننا أمام كشف تقني، حديث قادمٍ من الفضاء، حيث يصفون كماً من التفاصيل والألوان لم يشاهدها جيلنا في السينما من قبل، نشعر بالخيانة عندما تستطيع عدسات وكاميرات سحبت من مستودع حفظت فيه منذ عقود أن تذهلنا بقدراتها «الخيالية».
الربح فقط أم أبعد!
التطور التقني الذي أخذ يحول كل ما يحيط بنا إلى أرقام، استطاع ببساطة أن ينافس بكرات شرائط الأفلام القديمة، وخصوصاً أن تكاليف «الديجتال» أرخص بشكل ملحوظ.
وهذا ينبئ بالكثير، السينما هي مكان يجمع حشداً من الناس، تجمعوا هنا ليشاهدوا آلاف الصور المتعاقبة التي تتحول لحركة ما أن نعرض 24 واحدة منها خلال ثانية، ميزة دور السينما أنها قادرة على تنفيذ هذه المهمة، ميزتها المطلقة، لكن ماذا لو انقرض شريط الفيلم هذا؟ ماذا لو أصبح جهازاً متاحاً للجميع بحيث يستطيع أداء هذه المهمة؟! ماذا يعني أن يستطيع فرد واحد في غرفة عادية معزولة عن كل ما حولها أن يشاهد أي فيلم يريد؟!
هذا يعني ببساطة تجريد السينما من شكلها الاجتماعي، ويعني تخفيض الأثر الذي يخلفه مشاهدة فيلم ضمن حشد، وما ينتجه هذا من نقاش وتواصل وتفاعل بين الجمهور.