أوائل الأمثال المُدوَّنة

أوائل الأمثال المُدوَّنة

متى بدأت الشعوب تُدوّن أمثالها؟ في الجواب: استمر الظن عند الناس أن «سفر الأمثال» في التوراة هو أقدم مجموعة من الأمثال في التاريخ المدون، وقد كتبت في القرن الخامس قبل الميلاد في وحدات أدبية، ثم جمعت هذه الأمثال والحكم في كتاب واحد ونسبت إلى الملك سليمان. إلا أن هذا الظن تراجع مع نشر الباحث في علم الآثار «إدوار كييرا» عام 1934 جملة ألواح فخارية وكسر ألواح من مجموعة مكتشفة في مدينة «نفر» السومرية. تضمنت هذه الألواح أمثالاً يرجع تاريخ تدوينها إلى الألف الثاني قبل الميلاد. والكثير من هذه الأمثال لم يكن معروفاً من قبل. 

والمدهش أن تكون هذه الأمثال، بما عبرت عنه، وكأنها تحكي حال البشر اليوم، بحيث لن نجد صعوبة كبيرة بعد مرور آلاف السنين على تدوينها في معرفة ميولنا وحوافزنا وعيوبنا وآمالنا وأحلامنا الضائعة.

«من تخشاه هو الجابي..»

وكما هو حادث في زماننا كان لبلاد سومر فقراؤها الدائمون مع همومهم ومتاعبهم، وقد أوجزوا ذلك إيجازاً بديعاً في هذه المقاربة: «خير للفقير أن يموت من أن يعيش، فإذا حصل على الخبز ..عَدم الملح، وإذا كان لديه الملح عَدم الخبز، وإذا كان لديه اللحم فيكون قد فقد الحمل، وإذا كان عنده الحمل فيكون قد فقد اللحم». وكان الفقير يلجأ إلى إنفاق ما ادخره أو كما عبر عن ذلك المثل السومري: «يقضم الفقير فضته». وفقراء بلاد سومر كانوا على العموم قانعين بما قسم الله لهم من الأرزاق فقالوا: «من ملك الفضة الكثيرة فقد يكون سعيداً، ومن ملك شعيراً كثيراً فقد يكون سعيداً، ولكن من لا يملك شيئاً في وسعه أن ينام».

 ونجد الفقير في بعض الأوقات يندب حظه لأنه صاحب رفاق السوء فيقول: «أنا جواد أصيل لكنني ربطت مع البغل ووقع علي جر العربة وحمل أكداس القصب والقش». وفقراء بلاد سومر يحتارون في أمر معاشهم ومصروفهم كما نحتار نحن اليوم ويقولون في ذلك: «كتب علينا الموت، فلننفق وما دمنا سنعيش طويلاً فلنوفر». أما عندما يقترضون من الآخرين لتحسين شروط حياتهم فيقعون في مأزق أشد وأدهى، وعبروا عن ذلك بقولهم: يقترض الفقير فتركبه الهموم. والظاهر أن خوف الإنسان الفقير من جابي الضرائب في أيامنا هذه كان له ما يماثله عند أهل سومر فهم يقولون: «يمكن أن يكون لك سيد أو يكون لك ملك لكن من تخشاه فهو الجابي».

في وصف الحياة الاجتماعية

وقد فطن رب الأسرة السومرية بحصافته وحرصه ما للعيال وكثرتهم من هموم وتعب ومشقة في توفير الزاد والخبز لأفواههم الشرهة، فقال: «يد ويد ويعمر البيت، معدة ومعدة ويخرب البيت». وكانت العرب تقول: «العيال سوس المال». ويذكرنا هذا المثل السومري بذلك الزوج العربي الفقير حين بشرته امرأته بأن ابنه قد نبت ثغره- نبتت أسنانه- فقال: «أتبشرينني بعدو الخبز؟ اذهبي إلى أهلك». ونحن نسأل ما ذنب تلك المرأة المسكينة؟ 

وقد ضجر الآباء من مشاغبات أولادهم وتمردهم فتؤكد الأمثال السومرية على لسان الجدات في وصف هذا الوضع: «ما كل عيال الفقير خضوعين على السواء». وقد أدرك فقراء سومر ما للزواج من احتياجات يعجز الشباب أحياناً عن الوفاء بها فقالوا: «من لم يعل زوجة أو طفلاً فقد سلم أنفه من المقود»، والإشارة هنا إلى الخطام الذي يربط بأنف الأسير. 

أما عن تبرم المرأة وإلحاحها فيقول المثل السومري: «المرأة المتبرمة في البيت تضيف عذاباً إلى عذاب»، ولا عجب إذا ما وجدنا الرجل السومري يندم على زواجه فيما يتضح من المثل الآتي: «من أجل لذته الزواج وإذا ما تدبر الأمر الطلاق». وهناك أمثال تصف الحياة الزوجية  والاختلاف بين الزوجين إذ لا عجب إذا ألفينا العريس والعروس يدخلان الحياة الزوجية وهما في مزاجين مختلفين كما في المثل القائل: «القلب الفرح العروس والقلب المغتم العريس». 

وكان أهل سومر يقدرون الصداقة تقديراً عالياً إلا أن القريب أدعى للاهتمام وصلة الرحم، ويشبه هذا الحديث النبوي القائل: «انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً»؛ حيث يؤكد المثل السومري الفكرة ذاتها عندما يقول: «تدوم الصداقة يوماً ولكن القرابة باقية إلى الأبد». 

ضد التسلط..!

ويمعن الحكيم السومري في قول لطائف الأمثال وأندرها، ومنها: «لم يمسك الثعلب بعد ولكنه يصنع الحبل لعنقه. هل يكون حمل بلا جماع وهل يكون سمنة بلا أكل؟ وكل إنسان يميل إلى من يلبس الثياب الفاخرة. ولم يستطع كلب الحداد أن يقلب السندان فقلب وعاء الماء بدلاً منه». أما عن الحرب والسلم، فقد وجد أهل سومر أنفسهم في المأزق ذاته الذي يحدق بنا اليوم كما جاء في أمثالهم: «من يترك القتال قبل أن ينتهي لن يعيش في سلام. تذهب فتأخذ أرض العدو ثم يأتي العدو ويأخذ أرضك». 

ويبدو أن السومري قد وقف بحزم ضد دكتاتورية الإنسان وتسلطه فقال: «الإنسان أطول إنسان لا يمكن أن يطال السماء، الإنسان أعرض إنسان لا يمكن أن يغطي الأرض».