قطط دمشق وطيورها
منذ الأيام الأولى لسكني في الحيّ الدمشقي القديم، بدا لي أن القطط وطيور الحمام والغربان، كأنهم المالكون الحقيقيوّن للحي، هم أصحاب المكان الأصليّون، وكل ما عدا ذلك طارئ. بدت الفكرة مضحكة، أن يتطفّل هذا العدد من البشر على ملكيةٍ تعود لكائناتٍ أخرى، لكن ذلك كان حال الأمر.
في الشارع المستقيم الأقدم تاريخياً، يمكن أن ترى الحمام وهو يقتحم محامص المكسرات، ويأخذ «الأتاوى» من الباعة، حبّات فستقٍ أو ذرة. كان المشهد صادماً في البداية، بل مقرفاً. أن أرى الطيور وهي تحط داخل المحلات المفتوحة الأبواب. وتأخذ ما تشاء من الحبوب. كنت أتخيّل الحبات الصغيرة التي داستها الحمامات بأقدامها، أو تلاعبت بها بمناقيرها، أو وسّختها بغبارٍ علق على أجنحتها. إلا أنني بعد ذلك اعتدت المشهد الذي بات يومياً، وتصالحت مع فكرة أن للطيور حصة من الحبوب، فالعالم بالنسبة لها ما زال مشاعاً..
في حارتنا مركزٌ لتوزيع معونات «وكالة الغوث الفلسطينية»، في الصباح يجتمع الرجال والنساء، الشبان والشيوخ، كي يأخذوا سللاً غذائية لعائلاتهم. أكياسٌ من الرز والبرغل التي يتمزق بعضها وتتناثر محتوياته على الأرض راسمةً خطاً متعرجاً من الحبوب الصغيرة. في حارتنا تقاسم الطيور الفقراء سللهم الغذائية، ثم تطير فوق رؤسهم شبعانةً راضية. إن أضعت مركز وكالة الغوث يكفي أن تنظر إلى السماء.
في المنزل العربي، تسير القطة البيضاء على السور ويمشي ظلها الأسود على الحائط الأبيض. ترتاح القطط السمينات على كراسي الخيزران العتيقة أمام محال الأنتيكا في الحي القديم. تنام في كسلٍ تحت الشمس على صوت الإزميل الذي ينغرز في المعدن الصلب نقوشاً وأشعاراً. حتى جماعات القطط في الحي تفصل بينها «هوة طبقية» قطط الجزارين هي الأوفر حظاً، تتغذى على بقايا اللحوم والجلود، وتتمختر في الشارع متخمة بالطعام. في المقابل هناك القطط الهزيلة التي تقّلب القمامة بحثاً عما يؤكل، تلك تعيش عذاباً مضاعفاً، لأنها تقع أيضاً ضحيّة الأطفال من الفقراء، تصبح تسليتهم وتنال ما تناله من تعذيب وملاحقة. الصغار غاضبون محتقنون، يجدون في تلك الكائنات المسكينة مادةً مناسبة لتفريغ الغضب، ذلك المواء الطويل المتقطّع يشعرهم بالقوة، مساكين هؤلاء الفقراء من أطفالٍ وقطط.
أما الغربان فهي تحوم في المكان، بحيث يألفها المرء، ويخلع عنها صفتها المنذرة بالشؤم. لأن وجودها في المكان أقدم من الخراب الذي حلّ بدمشق، وبالبلاد كلها. قد يرتفع نعيقها في بعض الصباحات إلا أنه غدا الآن صوتاً حيادياً، وربما الأقل شؤماً من شتى الأصوات التي يمكن سماعها عنها.
في أحياء دمشق القديمة، سيبدو المشهد منقوصاً دون قططه وطيوره. ستبدو الساحة المقابلة للمسجد الأموي خاويةٍ ما لم تُفرش أرضها بمئات الحمائم التي تنتظر طفلاً صغيراً كي يُفزعها حتى تطير. ستكون محالات الحرفيين والباعة مملةً دون كائنات تستفز المرء بكسلها وموائها. ما زال للحمام والقطط حصة من دمشق، أما الديكة فهي تصيح في غير موعدها مذ تأخر الصباح في القدوم.