«الفردوس»... يُدخل الجمهور إلى أقبيته
علاء أبو فرّاج علاء أبو فرّاج

«الفردوس»... يُدخل الجمهور إلى أقبيته

قدم على مسرح فواز الساجر في المعهد العالي للفنون المسرحية العرض المسرحي «الفردوس» بين 15 و 19 تشرين الثاني، والعرض اقتباس حر عن نص مسرحي للكاتب هارولد بنتر وإخراج إبراهيم جمعة.  

في قبو رطب وبارد، يقطن شابان تفرض عليهما العاصفة التي تعطل الحياة في الخارج، البقاء منتظرين لأجل مبهم، بعد أن قضيا 3 أيام.. إلى أن بدأت أحداث المسرحية. 

خصوصية مسلوبة

في حيز ضيق، ترسم أغراضهما القليلة والأثاث الذي يملكانه حدودهما المتداخلة، وعلى الرغم من الاختلافات الشكلية الظاهرة باهتماماتهما أو طباعهما، غير أنهما يشتركان بالمكان ليصهرهما سياق الأحداث لاحقاً كأبناء طبقة واحدة، مقهورين على رغم من تمايزاتهم الشكلية. 

«خلدون» هادئ ومتزن ذو تجربة، بمقابل «سالم» البريء وكثير الأسئلة، ينتظران قرار صاحب البيت بتمديد عقد الآجار، ليحصلا على تصريح يسمح لهما بالبقاء في هذا «الفردوس».

تشعر بثقل حركة «سالم» القلقة على «خلدون» الذي يراقب بانتباه تحركات زميل سكنه، وخصوصاً عندما يقترب من حدوده، تتغير حدودهما بتغير مكان الأغراض، يحمي كل منهما ما تبقى له من خصوصية في هذا المكان الضيق، لكن هذه الخصوصية لم تعد موجودة، لم يختر أحد منهما أن يكون له شريك يقاسمه هذا الحيز بل الواقع فرض هذا، يرفض أحدهما اقتراب الآخر من سريره، ويسمح لنفسه في الوقت نفسه أن ينتهك خصوصية زميل سكنه ويسخر منه بعد أن اكتشف صورة له مع حبيبة ما، منتقداً «رومانسيته» التي تبدو في صورة كانت مخبأة بين أغراضه.   

الهوية وإرث الانتصار

لا شيء يجمعهما سوى المكان، لا قواسم مشتركة، لا شيء إلا الاختلافات، لكن صورة لمنتخب الشباب السوري الذي فاز بكأس آسيا في 1994  تشعل الجو، صورة مرمية وراء الخزان في القبو المستأجر، تختزل في إطارها إرثاً مشتركاً، صورة تحمل ذكرياتهما المتقاطعة وذكرى هذا الانتصار، دوامة جارفة من المشاعر والضحك يرمي كل منهما فيها تجربته الشخصية مع هذا الحدث بكل تفاصيله لينهي «خلدون» هذه الدوامة: «هدول معترين!»، فلا قيمة بعد الآن لكل هذه الذكريات، ويطلب منه أن يعيدها وراء الخزان فلا يحق لهما استخدامها فهي ليست لهم، لم يقبل «سالم» بل علقها على مسمار في وسط الجدار المتشقق، فلها قيمة يرفض رميها وراء الخزان.

تكتمل صورة الغرفة ذات الجدران المتصدعة، والتي تنقصها النوافذ، بوضع «إرث الانتصار» هذا، في مكانه أمام الجمهور الذي تذكر أيضاً «كأس آسيا» وشعر مثلهما بالحنين، بعد أن أضحت الشخصيات أقرب مما كانت تبدو بدايةً، والجميع شعر برضى مؤقت..

لديه الكثير من الأسئلة

يعمل سالم بتدقيق حسابات التجار ويكتشف فساد التاجر، يبدو له ضخماً هذه المرة، أضخم مما توقعه أو اختبره في السابق، يحتج ببراءته على سرقة 15 مليون، يثور ويسأل ويرفض، بالمقابل يستمع له خلدون باستخفاف، فهو يعرف أكثر، يعرف أن هذا شيءٌ بسيط مما يجري، بل يكاد أن يكون غير ملحوظ، لكنه هذه المرة لا يريد أن يتحمل تبعات أسئلة بسيطة كهذه مجدداَ.

تبدو الأمور كما هي بالواقع، البريء الذي بات يدرك اليوم أن الأمور أسوأ مما يعتقد، ويسأل من له خبرةً أكثر لعله يجد الإجابات الشافية، لكن الجواب يزيد الأمور تعقيداً فالمشكلة أكبر مما قد يتخيل، وفي اللحظة التي يحاول «خلدون» إخبار «سالم» بالحقيقة التي يعرفها، يمنع من هم «فوق» نقل هذه الحقيقة بين الشابين، هنا ينتقل هذا السؤال للجمهور الذي بات يدرك ذلك أيضاً، لا تجيب المسرحية على هذا، وتترك هذه المسألة دون حل لكنها تنقله ببراعة للمكان الذي يجب أن تحل به، يحملها الجمهور بثقلها إلى الخارج لتحل هناك.

«فوق» و«تحت»

صاحب البيت الذي يسكن في الطابق العلوي، يطلب المزيد دائماً، يرسل قائمةً من الطلبات التي تمنعهم العاصفة في الخارج من تأمينها، يحصر «خلدون»  كل ما في البيت ليرسله إلى الأعلى، يهددهم صاحب البيت الآن بسلبهم أبسط ما يملكون حتى حفنة «الكاجو» وقطعة البسكويت الواحدة المتبقية، «سالم» يثور ويعترض ولكنه يسلم كل ما يملكه حانقاً، تتضح الصورة أكثر الآن، من هم «فوق» يسلبوننا كل ما نملك ولا يشبعون، يريدون المزيد دائماً، لم يعد الحديث عن شخص بعينه، فالشخصيات الآن – مع الجمهور- «تحت» يسلبهم من هم «فوق»، يضحك الجمهور وهم يشهدون هذا المشهد «الطريف» يضحكون وهم يشاهدون أنفسهم يسلبون، كما ضحكوا عندما عادت صورة المنتخب السوري وراء الخزان بعد أن قرر من هم «فوق» النزول بانتهاك جديد لخصوصية القاطنين، ومشاركتهم هذا الحيز الصغير.

التقت «قاسيون» مع المخرج الذي تحدث عن العمل بهذه الكلمات:

هارولد بنتر كاتب إشكالي، وبعد تجرتبي السابقة كدراماتورج في عرض «الأيام الخوالي»، استمرت رغبتي في العمل على هذا الكاتب واكتشافه بشكل أكبر. وجاء اختيار نص النادل الأخرس، لأنه واحد من أهم نصوص هارولد بنتر الأولى، ويمكن التعامل مع هذا النص بالكثير من الحرية، مع أنه يحتوي على بنية متكاملة ومركبة. فضمن مفهوم الاقتباس الحر، يجب المحافظة على جوهر النص الأصلي، لكن يمكن التلاعب بالشكل الخارجي بالقدر المفيد. 

العمل الجماعي هو الأساس في هذا العرض، وكان للارتجال النصيب الأكبر في البروفات. فبعد انتهائنا من تحليل النص الأصلي، وبناء صيغة عامة للإعداد السوري لهذا النص، بدأ العمل مع الممثلين من خلال الارتجال على الخشبة، ومن هذه الارتجالات كنا نقوم ببناء المشاهد وكتابتها. وهكذا استمر الحال على مجمل مشاهد المسرحية تقريباً، حتى وصلنا إلى هذه الصيغة التي استمرت في التطور إلى ما قبل يوم العرض، ولا تزال تحتاج لتطوير حسب رأيي.

العرض اعتمد الواقع بالشكل الأساسي، وعلى التفاصيل اليومية ومدى تأثيرها علينا، وهذه كانت موضوعة أساسية من الموضوعات التي اشتغل عليها العرض. ومن أوضح هذه التفاصيل هو الخصوصية، فهاتان الشخصيتان محرومتان تماماً من الخصوصية، إلا في بعض الأشياء الصغيرة والتي تنتهك جميعها على مدار العرض، نتيجة عدم التواصل السليم بينهما، ونتيجة تدخل المؤجر والهالة التي يفرضها عليهما. وبالتالي فإن شبكة العلاقات تنطوي على عدة مستويات هنا، أهمها علاقة خلدون وسالم مع بعضهما، وعلاقة خلدون وسالم مع المؤجر الذي يقطن فوقهما تماماً. فبالرغم من جميع الاختلافات بين خلدون وسالم إلا أنهما يتحولان في لحظة ما إلى شريكين ليستطيعا التعامل مع المؤجر، فسالم يبدو بريئاً في التعاطي مع المشاكل الكثيرة التي تحيط به، وتخلق لديه العديد من الأسئلة، تلك التي يحاول مشاركتها مع خلدون، المبتعد تماماً عن أسئلة سالم، بسبب وصوله لأجوبة نهائية-بحسب وجهة نظره-. 

فريق العمل:

إخراج: إبراهيم جمعة

دراماتورجيا: هبه محرز

سينوغرافيا: سلمى حويجة

تمثيل: حسن دوبا - لجين اسماعيل

مساعد سينوغراف: راكان خزام