وعي الذات.. متأخراً
عندما قطعت يد الإرهاب العمياء رأس تمثال الشاعر أبي العلاء المعري، تداعت إلى الأذهان فوراً سيرة الشاعر الكبير الذي اشتهر بفيلسوف الشعراء، أو شاعر الفلاسفة، و كان الحدث مناسبة للتعريف بالشاعر وبقصائده وفكره وكونه قيمة إنسانية وإبداعية هائلة في تاريخ الحضارة السورية.
عندما هاجم الإرهابيون معلولا وحطموا تمثال السيدة العذراء، وعاثوا خراباً في كنائسها، وجرى سرقة بعض آثارها، صار حديث السوريين الشاغل، عراقة معلولا ولغتها الآرامية التي تشكل إحدى الإضافات إلى القيمة الإنسانية والتاريخية لسورية، والتي ما يزال سكان البلدة القديمة يتحدثون بها حتى اليوم
عندما وصلت آلة الخراب الهمجية إلى تدمر، خسرنا معبدين وقوس النصر وقتل بعض أهلها بطريقة طاعنة في القهر لن ننساها ما حيينا، لم يكن الكثير من السوريين، ومن ضمنهم بعض أهل تدمر نفسها، قد تعرفوا قبل ذلك على قيمة ما خسرنا ومن خسرنا..
صفعة مباغتة!
تتالت الفجائع والمجازر وأعمال التدمير ضمن تصاعد درامي مؤسف لأحداث الأزمة الدائرة وظروف الحرب على الأرض السورية، فمن الحسكة إلى حمص مروراً بحلب وإدلب.. ثم دمشق، لم تنج الأرض السورية من طعنات الخراب والتشويه، ويتعرف السوري خلالها، وربما لأول مرة، على كنوز بلاده الإنسانية والحضارية، يتعرف عليها وهي تسرق منه.
الأعراق الكثيرة التي تشكل النسيج البشري الذي يقطن هذه الارض، الأديان المختلفة، القرى والبلدات، الآثار والأوابد من العصور المختلفة، المبدعون والعلماء و الفنانون.. كان كل فقدٍ كبير مرفقاً بدلالات على ثراء المفقود، وفجأة تولد لدينا انطباع عام بأننا قصّرنا بحق أنفسنا، وبحق جارنا في الشارع المجاور والمدينة المحاذية، وتلك البعيدة، كان جهلنا ببعضنا البعض صفعةً مباغتة وقاسية.
وقف أمامنا، بعد كل ما مررنا به حتى الآن، تساؤل مشروع عريض يطرح نفسه: ماذا نعرف حقاً عن بلادنا، ماذا نعرف عن مواطنينا في الحاضر والماضي البعيد، وهل ما نعرفه كافٍ؟
من خلال الأحاديث!
من يهتم ويتابع المنشورات والمقالات وحتى أحاديث الناس من مختلف المشارب والتوجهات، يكتشف حجم المشكلة التي نتخبط في شباكها جميعاً دون أن ندري؛ فالبعض يعرف عن أبناء القرى والمدن الأخرى والأعراق المتنوعة التي تسكنها والأديان الأخرى ما يشاع فقط أو ما قد يمر مرور الكرام، عبر ثرثرة عبثية أو خبر صحفي صغير وحسب، وصاحب الذاكرة القوية سيدّعي ربما أنه تذكر معلومة حجمها ثلاثة أسطر على الأكثر من تاريخ المنطقة العريقة التي ازدهرت في قرون غابرة. أما مناهج التدريس فقد ركزت، بقصد أو دون قصد، على التاريخ انطلاقاً من زمان «محدد» وأغفلت ما سبقه، وتخصصت بتعميق الانتماء إلى الهوية العربية على حساب الهوية الوطنية، وأهملت تسليط الضوء على الثقافات والأديان والتراث الفكري والأدبي لواحدة من أعرق الحضارات وأقدمها!
اكتشفنا متأخرين أننا نقيم جغرافياً هنا، وننتمي تاريخياً إلى رقعة جغرافية أخرى، نتغنى بأمجاد غابرة أو أمجاد صنعها آخرون.. وحاول البعض في غمرة التيه هذه أن يكمل رسائل حضارية بعيدة، أو أن يتبنى رسائل أخرى في بعض الأحيان.
مضحك.. مبكي!
الصفعة التي تلقيناها سببت للبعض صحوة متأخرة، جعلت الكثيرين يبادرون إلى النبش في كتب التاريخ والأبحاث المنسية في مكتباتنا المغلقة، ثمة من أيقظ رسالة بعل، وثمة من استحضر عشتار، وثمة من بكى بحرقة على زنوبيا بعد ألفي عام من رحيلها. في سياق البحث عن بديل مما يجري وعن مستند تاريخي للهوية الوطنية الجامعة.
من المفارقات المضحكة المبكية أن بعض الدارسين والباحثين الأجانب كانوا يزورون سورية من مختلف أصقاع الأرض، فهناك من زار مناطق متعددة من سورية لـ(يكمل رسالة التخرج المهتمة باللهجات المحلية في المنطقة الشرقية!) على سبيل المثال، وآخر يريد أن يؤلف كتاباً عن الغنى الإنساني لبلد استوعب كثيراً من الأجناس والأعراق والأديان! في المقابل كان البعض من “الغوغائيين” منشغلاً بالسخرية من لهجات سورية معينة لأنها تنتمي لطائفة أوعرق آخر!
إنّ اكتشاف الخلل أو العلل التي تعانيها البنى الاجتماعية المتعددة في مجتمعنا، والتعرف على شرائحه الواسعة والمتنوعة وطريقة معيشتها وتفكيرها حاجة ضرورية وهامة لبداية الحلول المفترضة للخروج من الأزمة، فتشخيص المرض يسبق أي علاج، وتجاهل المشكلات لا يقود إلى شيء في النهاية سوى الانهيار أو الموت، وبطريقة محزنة.
ثمة ما يستحق البحث!
إن ما أبرزته الأزمة وأنتجته خلال سنواتها الخمس، يضع على جدول أعمال السوريين ضرورة معرفة السبب الحقيقي والعميق الكامن وراء بعض الظواهر المرضية التي تبدو وكأنها السمة العامة للبنية المجتمعية في سورية.
إن شكل التطور السياسي والاقتصادي- الاجتماعي في سورية، وأداء المؤسسات الإعلامية والثقافية الرسمية السورية بعدم إبراز الوعي الوطني السوري على حقيقته، وفتح المجال أمام وعي زائف وتصويره على أنه تعبير عن الواقع الاجتماعي السوري. فبعد أن بلغ الجهد المبذول لبثّ الفتنة بين السوريين أشدّه، طفت إلى السطح مخاوف متبادلة في بعض الأوساط، وافتراضات تدعو إلى الحذر والانتباه من الآخر رغم أنه لم يخطر ببال المتخوفين أنه على الضفة الثانية تنمو مخاوف مشابهة!
السوري المنتمي لجغرافيا وتاريخ سورية، والحريص على وحدتها، الجدير بحمل رسالة حضارية وتاريخية هائلة، معني بحمل هذا الإرث الغني، وإبرازه وتطويره وإخراجه من كهوف التاريخ المظلمة التي يستند إليها البعض لتعميق الخلافات الثانوية وتهويلها وتضخيمها ضمن مشروع متكامل يستهدف العديد من الدول والمجتمعات.