محمد الوهيبي..عن الدهشة والتجريب!

محمد الوهيبي..عن الدهشة والتجريب!

رحل الفنان محمد الوهيبي عن  68 عاماً بعد رحلة متميزة من العطاء في عالم الفن التشكيلي، أبدع فيها لوحات حفرية ملونة ولوحات تشكيلية حملت بصمته الخاصّة، وكان من الفنانين القلائل، الذين أعطوا اللوحة التشكيلية مناخات شرقية مميزة، واستعاد من خلالها معطيات التراث الفلكلوري والشعبي والأسطوري.

تبدو لوحاته كحكاية تفيض بالغرابة والشاعرية، وكجزء من قصة أسطورية، أو حالة مستعادة من رموز العيش في المدن القديمة، التي تصدعت وتدمرت، حيث الأشكال الإنسانية والحيوانية المجسدة على الجدران والأحجار القديمة، وكأنها قادمة من مدن منسية أصيبت بالزلازل والحروب وتراكم الحضارات.‏‏

عوالم الرؤى!

ارتبطت لوحته أيضاً في رموزها وعلاماتها الإيحائية، بمشاعر القلق والهلع المعاش في الأزمنة الراهنة، حيث يمكننا التماس عوالم الرؤى والأحلام الأسطورية التي تشي بحالة الخراب والدمار والموت المعلن وسط فوضى الحياة العصرية.‏‏ وكان يمنح أشكاله المرسومة المزيد من الدراية المهنية والخبرة التقنية، في خطوات الوصول والتركيز لإظهار أشد درجات الدقة في رسم التفاصيل الصغيرة التي تروي حكايات المدن العصرية المتصدعة والمحروقة والمدمرة والمهددة بالزوال.
في محفوراته الأولى استعاد بلاده وعبر عن تفاصيل العيش فيها، واهتم بتصوير الإرث الجمالي والفلكلور والتراث الفلسطيني بشكل كبير. فكان صندوق العرس، دلاء القهوة المرّة، الثياب المطرّزة، ووجوه موشومة بالفقدان والأسى والنواح، وصور البعد الإنساني في حياة المرأة واهتم بالروح الفلسطينية، يقول مؤكداً «لقد نلت حصتي من الكآبة، وعشت في المقابر أكثر مما عشت في الشوارع المفتوحة على البهجة: ماذا أفعل أمام منظر لامرأة تتناول القهوة أمام قبر زوجها، وقد أحضرت فنجانه كي يشاركها بؤسها وذكرياتها في وحدتها؟».


«التجريب.. ثم التجريب»!

انطبعت طفولته في ذاكرته، ورافقته الدهشة التي أعاد تشكيلها في لوحاته مراراً في رحلات التجريب: «لازالت طفولتي معي، لم أفارقها أبداً، إنما أعيد تشكيلها. فمن الرسم على الإسفلت بالطبشور إلى الورق، وفيما تنمحي لوحة الطريق مع المطر تبقى لوحتي في الذاكرة إلى حين تحل أخرى مكانها».  ثم يكيل الحديث عن بدايات رحلته في عالم هذا الفن يؤكد: «كانت بدايتي الفنية مع قراءتي لكتب تاريخ الفن والاطلاع على تجارب الفنانين. وكثيرا ما استوقفتني لوحات لرامبرانت وغويا التي كتب أنها نفذت بحفر الماء القوي. كانت دهشتي كبيرة، كدهشة الفقير من رؤية قطعة نقدية في الطريق. ودفعني تساؤلي عن ماهية الماء القوي ...».
تميزت تجربته في مراحل سابقة بمناخها الاختباري، وتنقلها من تقنية إلى أخرى، بين أعمال الرسم بالريشة والألوان، وبين طريقة الرسم بحفر طبقة اللون والوصول الى بريق اللون المعدني، ويؤكد الوهيبي أن هدفه كان منذ البداية: «البحث عن لغة تشكيلية خاصة تنتمي إلى منظومة بصرية تميز منطقتنا، وتقدم جماليات غير مألوفة بالنسبة للتشكيل المعاصر، وقد عثرت على هذه التقنية بنفسي من خلال التجريب والتجريب والتجريب..».


إيقاع اللون..!

أما عن اللون فقد برز اللون المعدني في معظم لوحاته، وكان البني في تدرجاته أساسياً في بعض لوحاته الأخيرة، ولم يعتمد الأجواء اللونية الصاخبة، ولا التنويع اللوني إلا ضمن خطة مدروسة جعلت إيقاعات اللون الواحد، هي الأكثر حضوراً في اللوحة الواحدة.‏‏ يتناوب اللون الخافت هنا مع إيقاعات اللون المعدني، ويزيد من بريقه ووضوحه.‏‏
ساهم في تطوير الحركة التشكيلية في سورية في فترة الثمانينات من القرن الماضي وهو يؤكد دائماً أن «الحركة التشكيلية في سورية صدّرت مجموعة من الفنانين الذي صاروا رواداً لها بالإضافة إلى أن محلية الفن السوري وخصوصيته جعلته يتجه نحو الفن العربي ليتمتع بذائقة فنية متنوعة». لديه العديد من المعارض الفردية، أكثر من عشرين معرضاً، ومشارك في الكثير من المعارض الجماعية داخل سورية وخارجها، حصل على مجموعة من الجوائز وشهادات التقدير، وهو عضو في اتحادي الفنانين التشكيليين الفلسطينيين والسوريين، وعضو في نقابة الفنون الجميلة .
الوهيبي من مواليد مدينة طبريا بفلسطين عام 1947 عاش وأسرته في مخيم خان الشيخ في ريف دمشق وتعلم في مدارسها وتخرج من كلية الفنون الجميلة قسم الحفر والطباعة اليدوية عام 1984 . ومن دائرة الاهتمام بهذا الفن انتقل إلى مرحلة الدراسة الأكاديمية التي وصفها بقوله، «خلال دراستي في كلية الفنون الجميلة، اخترت فن الحفر لاكتشاف أبعاد هذا الفن على أرض الواقع، والذي يعتمد على الحفر بالمنقاش المعدني الذي يشبه الإبرة. وهكذا اكتشفت عوالم تقنيات معالجة اللوحة والأفكار عن طريق الحفر والليثوغراف (الطباعة)».

يلخص الوهيبي في أحد لقاءاته تجربته مع الغنى الحضاري في الشرق، ويقول: «لقد أدركت منذ البداية بأنني فنان ينتمي إلى تراث عريق جداً من فن الحفر، إن الهوية التشكيلية لمنطقة المشرق التي أنتمي إليها هي تقنية الحفر، لقد حفر أسلافنا على الخشب وعلى الحجارة وعلى الطين، وطوروا هذه التقنيات على مدار آلاف السنين حتى أنك تذهل عندما ترى لوحة مثل لوحة السفينة التي جسد فيها الحفار الآرامي القديم جميع مفردات البحر بتقنية حفر عالية، تجعلنا نتوقف معقودي اللسان أمامها. وأيضاً ماذا يمكن أن يقال أمام مئات بل آلاف الأعمال التي تركها العرب القدماء في هضبة الصفاة شرقي دمشق حيث نرى أكبر معرض للحفر على الحجارة والصخور في العالم، لقد استغل هؤلاء الأسلاف تناقضات الألوان على الحجارة وتأثيرات الحك وتوصلوا إلى أعمال أقل ما يقال فيها إنها أعمال عبقرية).