«أولاد حارتنا»

«أولاد حارتنا»

في الحارة رجلٌ يمشي أشعث الشعر، يرتدي بنطالاً فضفاضاً، وقميصاً مفتوحاً. اللحية غير مشذبة منذ آلاف السنين، والعيون خبيثة ولاهية. هو النموذج ذاته الذي قد تلتقيه في معهد الفنون المسرحية. هو الناقد المتصّنع الذي قد تعبر بجانبه في البهو المقابل لمسرح الحمرا، أو تصادفه أمام لوحة تشكيلية. ولأن الرجل في حارتي، لا وقت لديه للتصنّع، ولأنه لا يشغل باله بصورته، يزداد شكّي بأن المخرج المسرحي، والناقد الفنّي هما اللذان سّرقا النموذج وشكل الشعر والثياب الفضفاضة، وليس العكس.

«كاسترو» يقود «هونداية»!

وإذا ما تجوّلتَ في الحي، يمكن لك أن تصادف شبيهاً لفيديل كاسترو، وهو يقود شاحنة هوندا لنقل الخضار. له العيون الصغيرة الحادة ذاتها، واللحية الغارقة في السواد التي تذّكرنا بصورة القائد الثائر أيام شبابه. حتى أن الرجل في حارتنا يكاد يرتدي القبعة ذاتها . بحيث لا يصعب تخيله وهو يذرع الشارع جيئة وذهاباً يوزّع المهام مرتدياً بدلة خاكية. ولأن فيدل كاسترو لا يظهر كثيراً على الشاشات الآن، لا مبرر لي للظن بأن الرجل يحاول محاكاته وتمثّله. جل ما أتمناه أن يبقى الرجل في منأى عن عيون صنّاع السينما، الذين يبحثون عن ممثل كومبارس يعيد تمثيل صورة الرئيس الكوبي، ويظهر بمظهر الإرهابي الدكتاتوري. في فيلمٍ يستعيده مرةً بعد حادثة خليج الخنازير. 
قبل أيامٍ عبر بي رجلٌ ببدلة بيضاء، يرتدي قميصاً أحمراً وينتعل حذاءً أحمراً. يسند جسده على عصا خشبية، حينما وقع نظري عليه، تلفّتُّ لأتأكد إن كان أحدٌ غيري قد رآه، لكن بدا أن الجميع يسيرون هائمي النظرات. فكرّت من أين استطاع الإتيان بحذاءٍ أحمر؟! ثيابه تنفع لأن تكون أزياءً في مسلسلٍ كوميدي. لكنه يسير متجهّم الوجه، وبكامل الجديّة.


العجوز الضاحكة كثيرة الكلام

في حارتي إمرأة ستينية، أو سبعينية، أو ربما توقّفت منذ الأزل عن عادة حساب الزمن بالسنين. قصيرة القائمة، ضئيلة الجسد، حاسرة الرأس شائبة. ترتدي تنورة تكشف عن أقدامٍ نحيلة عارية صيفاً شتاءً: المرأة العجوز ثرثارة كسائر الوحيدات اللواتي لا يجدن ضِراراً من التحدّث مع الغرباء لقتل الوقت. البعض يقول بأنها تدين باليهودية، وأنها تمتلك بيتاً كبيراً في حارة اليهود، ربما أصبح خرابةً الآن، وأنا أقول أنها وحيدة فحسب.
من حسن الحظ أيضاً ألا كاتب سيناريو صاعد، اكتشف العجوز الضاحكة كثيرة الكلام. لأنه كان سيستغل وحدتها، ويطلب منها أن تقصّ حكايتها، كي يكتب مسلسلاً جديداً، عن حارة اليهود في دمشق القديمة. ربما إن كان نشيطاً بما يكفي، وإذا ما أضاف الموت بعضاً من الوقت على حساب عمر العجوز. ربما يستطيع الكاتب إنجاز الحلقات الثلاثين بحلول الموسم الرمضاني القادم.
خارجاً من محلٍ على الزاوية، يمشي شابٌ عشريني مرتدياً قميصاً فوسفورياً ونظارةً شمسيةً ملونة العدسات. أتأمله وأشعر بأن هناك شيئاً ناقصاً. نعم، الشاب ينقصه يدٌ. بُترت أسفل الكتف بقليل. الشاب ضخم الجثة، يبالغ في أن يمشي مشية «القبضايات» ويده الوهمية تتأرجح  في الهواء. يلقي السلام هنا وهناك ويوزّع الابتسامات. تمنيت لو أن أيدٍ تمتد لتحضنه بدلاً من أن تلوّح له برد السلام، وهو المصّر على المكابرة، هو ابن الحارة بامتياز، الحارة التي تعطي الأسلحة لأبنائها وتخبرهم أن يذهبوا للقتال.     


 خيوط الحكايات على بلاط الشارع

في السابق كنت أظن بأن الدراما تختار أن تبني شخوصها مع الكثير من المبالغات لإظهار مفارقات محددة، أو خلق ما بات يسمى، حتى في أحاديث الناس اليومية- «كاركتر». لكن تأملاً لشارعٍ كحيّنا، بما فيه من محلات الفول والمسبحة والمصابغ وبسطات الخضّار، يؤكد بأن الحياة هي الغنية بذاتها، وهي المتنوعة القادرة على إيجاد نماذج فريدة. بحيث يبدو تعبير «الدراما مرآة تعكس حياة الناس» شطحة من المبالغة. فالجهد الذي يبذله صنّاع الدراما لا يقارن بسعة خيال شارعٍ شعبي. لكن وبالرغم من أنني أخاف على أولاد حارتنا من الابتذال، أكاد أرى خيوطاً لا مرئية تركتها حكاية كل منهم على بلاط الشارع الحجري، وهي خيوط لحكايات تستحق أن تروى.
«أولاد حارتنا»: مأخوذ من عنوان رواية بالاسم ذاته لنجيب محفوظ.