لعنة التين
فتح حقيبته القماشية الكبيرة وأخرج منها بضاعته اليومية على عجل، بدأت الشمس تزداد حماوة ولم يعد هناك الكثير من الناس في الشارع، أخذت ثمرات التين تصطف بين يديه بعد أن توسدت أوراقاً خضراء جميعها من الشجرة ذاتها، رشق قليلاً من المياه أمام «بسطته» المتواضعة ثم جلس على ركبتيه تحت ثوب ممزق يستظل به على الدوام، يكاد الشارع يخلو من المارة تماماً، فلم يتبق إلا ساعات على موعد الإفطار.
سرعان ما يبدأ «سالم» بالشرود، أخذت الشمس تنفذ من شقوق الثوب فيغمض عينيه بعض الوقت وينصت إلى صوت الريح، هذه هي السنة الثالثة التي يمضيها مع هذه «البسطة» الصغيرة، تعود به الذكريات إلى الأيام التي كان فيها من أشهر تجار الخضار في المنطقة، كانت تصطف أمام مخزنه سيارات عديدة فتمتلئ منذ الصباح بكل ما تشتهيه النفس من ثمار الأرض لتبدأ رحلتها المربحة إلى المدينة، إلى أن هبطت قذيفة غادرة في يوم من الأيام لتحول كل شيء إلى رماد، لم يمض الكثير من الوقت حتى سلبته الأيام كل ما تبقى، أحاطت عربات هادرة منزله و«صادر» الرجال المتشحون بالسواد كل ما وقعت عليه عيونهم، تحولت الحفرة التي صنعتها تلك القذيفة إلى معسكر مصغر، وقطع «الضيوف الثقلاء» كل الأشجار في أول شتاء، لم يعد هناك من حل سوى الرحيل.
يذكر «سالم» جيداً كيف انطلق في أحد الأيام بعيداً عن منزله، رفع أولاده النيام على كتفه وأشار لزوجته الدامعة باللحاق به، حملت المرأة لفة قماشية كبيرة ومشت بصمت خلف زوجها، كان ذلك في شهر رمضان أيضاً، أخذت المآذن تصدح لترافق الزوجين المتثاقلين في رحلتهما نحو المجهول، انتهى بهما الطريق إلى بساتين القرية الشاسعة، أخذوا يتجاوزون الأشجار المتفحمة والمنازل المهدمة إلى أن وصلوا إلى إحدى التلال، وجد «سالم» المشهد مألوفاً للغاية، إنها «تلة التين» التي تنتهي عندها حدود القرية، ألقى الزوجان أجسادهما على التراب قليلاً ثم نهض الأب لينصب خيمة قديمة تحت إحدى أشجار التين القريبة.
يتذكر الرجل جيداً تلك الرائحة الزكية التي أرسلت بعض الخدر إلى رأسه المتعب، «سنظل هنا لبعض الوقت»، نظر إلى زوجته التي لم ترفع عيناها عن صغارها، وهذا ما حدث، يرفع «سالم» حاجبيه وهو يستعيد ببطء كل التفاصيل: «يبست أشجار التين جميعها خلال أسابيع إلا واحدة» بدا أن الشجرة التي احضنت خيمتهم بقيت صامدة، بدأت الثمار تتلون وتشققت حبات التين، وها هي تؤمن لهم كفاف يومهم طوال الشهور الماضية.
حرقت الشمس عيني «سالم» من جديد، اعتدل في جلسته يحاول إبعاد وهجها المزعج عنه، التفت بضيق إلى الشارع يمنة ويسرة فلم يجد أحداً، «هذه هي السنة الأسوأ»، يهمس لنفسه وهو يعود مجدداً إلى الماضي، تعانقه صور من شبابه، مع إخوانه وأولاد عمومته، ذكريات رمضان كانت الأجمل، السهر على الأسطح حتى أوقات السحور، النسائم وأضواء النجوم كانت ساحرة.
يخفي الرجل ابتسامته وهو يستذكر ألعاب الطفولة، لم يكن يقدر على تسلق أشجار التين بسرعة كما يفعل شقيقه «عمر». يذكر كيف اعتاد ابن عمه «حيان» على تثبيته قرب جذع الشجرة، ودهن وجهه بأوراق التين الخشنة، كانت عصارة تلك الأوراق البيضاء تشعره بالحكاك الشديد. يضحك «حيان» بشدة وهو يرى دموع «سالم» المنهمرة، وكان «عمر» يحاول ركل ظهر «حيان» الضخم دون جدوى..
«ذهبت تلك الأيام إلى غير رجعة..»، يهمس بحرقة، قًتل «عمر» في رمضان الماضي بعد أن جابه من حاول خطف زوجته، أما «حيان» فاختفى من القرية فور دخول الغرباء إليها، ولم يسمع عنه أحد أي خبر.
أحس «سالم» بضيق مفاجئ، نهض يبحث عن أي عابر في هذا الشارع الموحش، لكنه لم يجد سوى مجموعة من الملثمين، وهم يصيحون بحدة في آخر الشارع، تراجع الرجل خطوة إلى الخلف بعد أن لاحظ رشاشاتهم ومخازن الرصاص المعلقة على صدورهم، «لا زبائن اليوم.. إلى الغد إذاً».
أخذ يجمع الثمار بحذر ويعيدها بخفة إلى حقيبته، لكنه لم يتمكن من المتابعة، أحس بأصواتهم تقترب أكثر فأكثر، التفت بحذر ليرى وجهاً ملثماً يرتدي السواد وقد أصبح أمامه مباشرة، تحلق رفاقه حوله وهم يقهقهون بصخب، تقدم الملثم نحوه ودفعه على الأرض ثم فك قراب المسدس على عجل، ارتعد «سالم» وأغمض عينيه ظاناً أنها النهاية، تذكر والده وبيته القديم وزوجته و«عمر» والأشجار المحترقة دفعة واحدة، مرت اللحظات الثقيلة كأنها دهر، إلى أن بدأ يشعر بملمس غريب على وجهه، أخذ يشعر بحكة شديدة لم يستطع مواجهتها بأطرافه التي أقعدها الرعب، غمرت أنفه رائحة التين العتيق وأحس بعصارته تزيد من الحكاك، فتح عينيه بحذر وبدأ يشعر بالدوار الشديد، اختلطت الأزمان كما اختلطت عصارة الأوراق بعرقه المتصبب، وأخذت العيون الضاحكة تعيده سنيناً نحو جذع شجرة التين.