إبداع الشارع.. ثقافة تحرر جديدة
الكتابة والرسم على الجدران ، مسرح الشارع ، النحت، الفعاليات الأدبية ..إلخ، كل تلك الأشكال الإبداعية لجأت إلى الشارع أخيرا في بعض البلاد كمنصة للتعبير ، وتمرداً على كل ما هو تقليدي ومفروض بحثا عن حرية للتعبير بدون قيود.
فمثلا عندما تتجول فى شوارع بيروت تجد أشعار الإسباني جارسيا لوركا ، بالإضافة إلى بورتريهات بالجرافيتي لرموز الثقافة اللبنانية والعربية مصحوبة بأبيات شعرية أو أقوال مأثورة تمثل في جانب منها تكريما لتلك الرموز واحتفاء بهم وكذلك تعبيراً عن رفض من نقشها للواقع هناك.
وفى تونس خرجت "حركة نص" الشعرية من رحم ثورة الياسمين صيف عام 2011، وتجمع الحركة الشابة عدداً من الشعراء والنقاد، ولا يكمن شبابها فى أعمار مؤسسيها وإنما فيما يطرحونه من أفكار ولغة إبداعية جديدة
وكان لتركيا نصيبها أيضا حيث نشأت حركة شعرية تفاعلت مع الاحتجاجات التي شهدها ميدان تقسيم في يونيو 2013 أصبحت جزءا مهما من الحياة الأدبية التركية، وفقا لما ذكره الصحفي الألماني آخيم فاجنر فى تغطيته لتلك الأحداث والتي نشرها معهد جوته. حيث أشار إلى أن مجهولين كتبوا على الباب الخشبي للقنصلية الفرنسية قرب ميدان تقسيم، بحروف كبيرة "la poésie est dans la rue" (الشعر في الشارع). مستوحيين حركة الطلاب في باريس عام ١٩٦٨، حيث ترجموها إلى التركية وقاموا برشها في أماكن عامة مختلفة.
ثم قام الفنان التشكيلي التركي رأفت أرسلان بإجراء تغيير بسيط على هذه العبارة، وكتب خلال الاحتجاجات على جدار أحد المباني باسطنبول عبارة "أغلق الدفتر.. الشعر في الشارع"، لتصبح تلك العبارة بمثابة نداء لملء الشوارع بالقصائد. فامتلأت الأشجار والجدران وأسوار الشوارع بأبيات لشعراء تركيا المعاصرين أمثال : ناظم حكمت، أورهان كمال، حسن كوركمازغيلس، أتاول بهرام أوغلو، تورغوت أويار.
وبحلول سبتمبر ٢٠١٣ انتشر وسم "هاشتاج " على موقعي التواصل الاجتماعي فيسبوك وتويتر باسم «الشعر في الشارع» - الذى أصبح مع الوقت وثائقيا للقصائد المكتوبة بالشوارع- وأرفق الهاشتاج ببيانات قصيرة أقرت بأن الشعر في الفضاء العام لا يقدم حلا لأوضاع المجتمع السلبية الحالية، إلا أنه قد يسهم على المدى الطويل في توفير الغذاء الروحي ويعمل بذلك على إجراء تحول ولو صغير.
وأخيرا انتقلت العدوى إلى السودان حيث أطلق الشاعر الشاب مأمون التلب مبادرة "الحركة الشعرية" فى نهاية يوليو الماضي دعا خلالها المثقفين والأدباء والشعراء إلى اتخاذ الساحات العامة مسرحا لعرض انتاجهم الأدبي أمام الجمهور، ويروى مأمون في تصريح لـ "الأهرام" أن الفكرة كانت شخصيّة في البداية، إذ أصبحت الجماعات الثقافيّة مقيَّدة جداً؛ وقد أغلقت معظم المنابر الثقافية حتى مبادرة (مفروش) لبيع وتبادل الكتاب المُستعمل: لذا فى ظل هذا التضييق فكر في مبادرة فردية تستغل، في بدايتها، ساحة "أتنيه" لتنظيم عملٍ ثقافيٍّ غير مقيّد، وكان الشعر هو أقربها وأقلّها تكلفةً، إضافةً إلى انجذاب السودانيين ومحبتهم للشعر بصورة عامّة. مضيفا " الاستجابة كبيرة، وفهم الناس المغزى من هذا العمل بعد أن همدت الساحة الثقافيّة بسبب الإغلاق التعسفي للمنابر في الخرطوم وبقية السودان".
يوضح مأمون أن ما يميز تلك المبادرة أنها تستهدف الشوارع والمدن السودانية الأخرى من خلال رحلات دوريّة لشعراء يتنقلون من مدينةٍ لأخرى في محاولة للالتحام مع شعراء من خارج المركز إضافةً لكتابة الشعر خلال هذه الرحلات مشيرا إلى أن الأدباء والشعراء يعانون التضييق منذ عام 1989م، أي مع انقلاب الإخوان المسلمين، حيث تمّ إغلاق دار اتحاد الكتاب السودانيين في الشهور الأولى وصُودرت ممتلكاته، وعانى الأدباء والشعراء من التشريد في الوظائف فهاجر أغلبهم خارج السودان. ، ولم يكن هنالك من مفر لمواجهة الواقع الذي صُودرت مكتباته العامّة وأوقف النشاط الأدبي في المدارس وعطّلت حصص القراءة والرسم والموسيقى بصورة منظّمة إلى أن اختفت من الوجود.
لكن يؤكد مأمون أنه برغم كل هذا التضييق إلا أن الحركة الشعرية والأدبية في السودان تبدو منتعشة جداً وتزدحم في كل يوم بالأسماء الجديدة.
المصدر: الأهرام