أمريكا.. من جديد..!
حاول «جون بورمان»، مذيع قناة (سي ان ان) الأمريكية متابعة تقريره كالمعتاد، لكن جميع المشاهدين استطاعوا سماع صوت غاضب صارخ في الخلفية، ظهرت شابة سوداء البشرة وراء «جون»، سمعت أميركا كلها صوت تلك الشابة الهادر، التي لم تتوقف عن الكلام، حتى تقطعت أنفاسها: «هل تصورون؟ كفاكم كذباً.. نحن غاضبون.. نحن غاضبون.. الرجل الأبيض إرهابي قذر.. هل تسمعني.. الرجل.. الأبيض.. هو.. الإرهابي..!!»
بدأ الصوت يزداد صخباً إلى حد لم يستطع فيه المذيع سماع نفسه، توجهت الكاميرا نحوه وهو يحاول أن يتابع حديثه لكن دون جدوى، صمت الرجل قليلاً بعد أن قطع ذلك الصوت سلسلة أفكاره!
حدث ذلك بعد ساعات قليلة من مقتل تسعة من سكان مدينة «تشارلستون» في ولاية كارولاينا الجنوبية، داخل إحدى الكنائس، على يد أحد الشبان هناك، وبالطبع، كان الشاب أبيض البشرة والضحايا جميعاً من أصحاب البشرة السوداء، لتضاف هذه الجريمة إلى عدد متزايد من جرائم الكره العنصري التي تعصف بالبلاد في الآونة الأخيرة، بدا وكأن أحداً لا يستطيع وضع حد لمثل هذه الاحتقان الدموي، الذي بلغ حداً غير مسبوق، خيم شعور بالعجز على الجميع ذلك اليوم، وبالأخص بعد ظهور الرئيس الأمريكي «باراك أوباما» مندداً بهذه الجريمة البشعة، لاحقت الشاشات تلعثمه وبلادة نظراته، أصبح الكلام عن هذه الموضوع ممجوجاً، ولا طعم له ولا رائحة، وأصبح الغضب هذه المرة أكبر من أن يتم احتواؤه بكلمات العزاء الباردة.
القصة المكررة!
وقعت المصيبة حين دخل «ديلن روف» إلى داخل الكنيسة، وبدأ بإطلاق النار من بندقيته على المصلين، هي البندقية ذاتها، التي أهداها إياها والده حين بلغ الواحدة والعشرين من عمره هذا العام. يرتدي «ديلن» على الدوام سترته المفضلة التي وضع عليها صورة صغيرة لعلم جنوب أفريقيا السابق أيام نظام الفصل العنصري هناك، وها هو يبتسم للكاميرات بكل فخر وهي تلاحق رجال الشرطة وهم يمسكون به ويدفعونه إلى داخل السيارة، يريد «ديلن» أن يعرف الجميع دوافعه، فكنيسة «إيمانويل» هي المعقل التاريخي الأبرز للثورة ضد أنظمة التمييز العنصري الأمريكية، طوال أكثر من قرنين من الزمن، وشهدت خلال تاريخها تفجيرات وحرائق لمرات عديدة، وها هي اليوم تتعرض لمصيبة جديدة، تريد إعادة البلاد إلى أيام الحرب الأهلية، هذا بالضبط ما يريده «ديلن» الذي أسرّ إلى العديد من أصدقائه قبل عدة أيام حول «توقه إلى خلق حرب أهلية جديدة»!
«الملاك الأبيض»!
لم يكن تأثير هذه الجريمة هو المحرض الأساسي لهذا الغضب، إنها ليست المرة الأولى التي تحدث فيها مثل تلك الأمور، ولن تكون الأخيرة كما يبدو، لقد أثار التعاطف المزيف مع وجه «ديلن» الملائكي «الأبيض» حنق العديد من الأمريكيين، في أنحاء البلاد كافة، بعد أن شاهدوا التغطية الإعلامية التي رافقت الحادثة، تحاشت تلك القنوات جميعها عن وصف الحدث بالعمل «الإرهابي» من الأساس، واكتفت بكلمات مثل «فاجعة» و«كارثة» و«جريمة» دون أن تتطرق أصلاً إلى الدوافع الكريهة وراء كل هذا، وكأن ما جرى مجرد إعصار أو زلزال أو كارثة طبيعية من نوع ما.
يمكنك التماس «الحزن» أو حتى «الغضب» لكن من دون أي جذور أو أصول لهذا المشهد المنفر، كما لن تستطيع تجاهل ذلك التعاطف الخفي مع «الملاك الأبيض»، التقليد الأمريكي الأكثر تكراراً على الشاشات، حيث يتم البحث عن «علة نفسية» أو «ظروف اجتماعية أو أسرية سيئة» دفعته لمثل هذا العمل، تتحول الإدانة إلى شعور بالشفقة، تعلق مذيعة قناة (إم اس ان بي سي) فور سماعها للخبر: «فلننتظر جميعاً.. نحن لا نعرف بعد الحالة العقلية لهذا الشاب»!
«عمل إرهابي».. حسب «اللون»!
هنا تبدأ قصة أخرى، فالقاتل «الأبيض» ضحية ظروفه السيئة، والقاتل «الأسود» مجرد قاطع طريق ومجرم بالفطرة، هذا ما تقوله نشرات الأخبار الأمريكية طوال السنتين الماضيتين، يسترجع المشاهدون التغطية الإعلامية لمقتل الشاب «تريفون مارتن» لأنه يرتدي «سترة بقبعة تشبه قطاع الطرق»، أو إطلاق النار على «شارلي بروان» بعد الاشتباه بسرقته سيجاراً من المحل المجاور، أو «خنق» بائع «بسطة» السجائر «إريك غارنر» من قبل مجمعة من رجال الشرطة بعد مشادة كلامية معهم، وغيرها من القصص «السوداء» الأخرى، تحضر جميع تلك القصص من الذاكرة حين يشاهد الجمهور تقريراً تظهر فيها والدة «ديلن» وهي تتحدث عن ابنها «الهادئ» و«الذكي في مدرسته»، بينما لم تتوقف القنوات ذاتها عن وصف بقية الضحايا بـ«قطاع الطرق»، ببساطة، العنف «الأسود» منظم وخطير ويتطلب ردود أفعال رسمية، بينما يتردد الجميع في تسمية الأمور بمسمياتها: «عمل إرهابي».
بانتظار الأجوبة..
يتحاشى الإعلام الامريكي أسئلة أخرى أكثر أهمية: من أين اكتسب هذا الشاب الذي قتل المصلين داخل دور العبادة هذا الحقد ضد السود؟.. هل تأثر بما يسمعه أو يشاهده على التلفاز من تشويه لصورة جيرانه من أصحاب «الألوان الأخرى»؟.. هل علمه والده ذلك بعد أن أهداه بندقية في عيد ميلاده؟ هل هناك الكثيرون مثله؟ تنتظر الشابة التي رفعت صوتها في وجه عدسة الكاميرا إجابة لجميع تلك الأسئلة، هي تدرك جميع الإجابات، لكن الصمت الذي يتجاهلها والأعين التي تتحاشى النظر في معاناتها هي من تقتلها، لا الرصاص..