موسيقى دايت..  و«الكوكاكولا»
مهند نصر  مهند نصر 

موسيقى دايت.. و«الكوكاكولا»

لطالما عبرت الموسيقى خير تعبير عن الغنى الروحي للشعوب على اختلافها واعتبرت لغة جامعة، تبُدد وهم الحدود، وتختزل المسافات بين الإنسان والإنسان. فهي خلاصة ما صنعت يداه من عمل فني. يعكس قدراته الكامنة على الخلق المنظم. ويعبر عن رغباته المتأصلة في البحث عن التناسق والترتيب والتوازن .

واليوم، في حاضر بات أشبه بسوق صاخب،  وعالم يسوده انفتاح لا حدود له ولا قيود، ترسم السرعة إيقاع يومه الخاطف، وتغدو قنوات التواصل فيه أوسع وأقصر، أصبحنا نلمس التأثير المباشر لنمط الحياة هذا على سويّة ونوعية ما نريد، وكأن واقع عصرنا يرفع من عتبة حاجاتنا، وخاصة الروحية منها. فهناك الكثير من التجارب التي تسعى للوصول إلى ذلك المشترك بين البشر من خلال تلاقح الفنون وتواصلها، تجارب تريد التأكيد على كونية هذه اللغة وضرورة وجودها، ولكن ثمة من يريد شيئاً آخر، ثمة من يفكر باستثمار من نوع آخر.. 

أمواج الكوكا كولا..!

في عام 1886، كان يكفيك التوجه إلى أقرب صيدلية في أميركا، عند حاجتك لعلاج الصداع وعسر الهضم وأحياناً العجز الجنسي، لشراء نافورة شراب الصودا (الكوكاكولا المنتجة حديثاً) والموصوفة كعلاج طبي حينها.

 تأسست شركة «كوكا كولا» عام 1892 رسمياً، ومع نهوض العالم الرأسمالي، تحولت تدريجياً إلى شركة عابرة للقارات، فهي تسوق الآن  لمنتجاتها في أكثر من 200 بلد حول العالم .

اختيرت شركة كوكاكولا في عام 1966 لتكون من أكثر الشركات الداعمة للكيان الصهيوني، تبرعت كوكاكولا العالمية في انتخابات 2000 بمبلغ 610 آلف دولار لدعم حملة جورج بوش الابن الانتخابية، والتي كانت نتيجتها احتلال العراق لاحقاً ودعماً لسياسته المناهضة للعرب والمؤيدة للكيان الصهيوني، فقد ساهمت الشركة في بناء مستعمرات استيطانية منها (كريات جيت) في فلسطين المحتلة . وتعمل الشركة الآن على استخدام الموسيقى كوسيلة لجذب الجمهور وزيادة عدد مستهلكيها، من خلال استخدامها لأحدث ما توصل إليه علم النفس الإعلامي من وسائل لمختلف أشكال التسويق والترويج لمنتجاتها.

«كوك استوديو»! 

«كوك استيديو»، برنامج موسيقي، يشبه في شكله البرامج والمسابقات التي قدمتها الشاشات العربية في السنوات العشر الأخيرة (أراب أيدول، إكس فاكتور، سوبر ستار) ولكن ما يميزه أنه يخرج من الإطار المحلي ليكتسي بصبغة عالمية. 

بعد بدايات البرنامج في البرازيل 2007 توجه فريق العمل إلى الشارع الباكستاني 2008 ليقدم سبعة إصدارات على مدى سبع سنين متتالية، تلاها «كوك استوديو» هندي في إصدارين، ثم تلاحقت الإصدارات في كثير من البلدان،(نيجيريا، تانزانيا، أوغندا، موزمبيق، كينيا، الشرق الأوسط.. الخ).

تتشابه آلية العمل نسبياً رغم اختلاف البلدان، وتعتمد على استقطاب خيرة الموسيقيين والمغنيين من مثل، (راهات فاتح وعلي خان من الباكستان، الليدي جايدي من أفريقيا، ووديع الصافي ..الخ). وطرح الموسيقى الشعبية بالآلات التقليدية المتعارف عليها في البلد المختار بأسلوب حديث ومعاصر، والعمل على دمج أنواع موسيقية مختلفة (المغني المصري محمد منير مع فرقة ذا ويلرز من جامايكا، المغني التونسي صابر الرباعي ومغنية الهيب هوب شونتيل).

أما الهدف المعلن أثناء الترويج لهذا البرنامج فهو «إعادة إنتاج طرق تمكن الموسيقى من التماس روح الطبيعة، وترتقي بالقلوب والعقول في سبيل السعادة»

تبدو تجربة «كوك استديو» للوهلة الأولى مدهشة وساحرة، ومبهرة كالسلع الجذابة المتواجدة على رفوف المولات الضخمة كافه! لكنها تعكس في جوهرها شيئاً آخر، إذ أنها تحقق حالة من التلاقح بين رأس المال العالمي، ورؤوس الأموال المحلية المتمثلة بالمستثمرين.

وراء الكواليس!

قد يرى الباحث في كواليس «كوك استوديو» ما لا تراه العين على الشاشات العالمية والعربية المروجة والداعمة له، عندما يعرف أن إدارة البرنامج في إصداره الخاص بالشرق الأوسط، قررت إلغاء تصوير إحدى الحلقات بسبب وجود موسيقيين من كوبا!

 قرأ بعض النقاد ذلك بالقرار السياسي الأميركي القاضي بالمقاطعة الثقافية لكل ما هو كوبي، ومن جهته، لم يعقب المستثمر اللبناني ميشيل الفتريادس على ذلك.

تعرض البرنامج لنقد واسع أيضاً في الصحافة الباكستانية، ففي مقال بعنوان «أين الموسيقى؟» تصف الناقدة فيه الوكيل الحصري لكوك استديو الباكستان بقولها: «فقط في بلادنا يستطيع اللا موسيقي الذي لا يقدر قيمة الموسيقيين الحقيقيين أن يخترق مملكة المنتجين بحرفية وتمويه، وأن تصبح مطلق السيطرة والتحكم بيد رجل واحد». مشيرة إلى أن الإصدار الباكستاني حقق نجاحاً في بداياته لكنه لاحقاً فقد التواصل الحقيقي مع الجمهور.

قد يفسر لنا هذا الخط البياني للإصدار العربي ابتداء بوديع الصافي مع العازف الأرجنتيني فابيين بيرتيرو (كطرح للموسيقى العربية مع التانجو).  انتهاء بنانسي عجرم مع المغني الإسباني خوسيه جالفيز ( في محاولة مشوهة لطرح القدود الحلبية!)، مما يشير لعدم اكتراث إدارة البرنامج بإرواء ظمأ المتعطشين للموسيقى بقدر أروائها  لمتعطشي الكوكاكولا! 

أساليب مقاومة! 

عقب انتفاضة الأقصى 2003، ومع نمو حركات المقاطعة العالمية للبضائع الأميركية، والتي أثرت على الاقتصاد الصهيوني نوعاً ما، خسرت شركة كوكاكولا المصرية ما يقارب نصف رأسمالها، مما دفع بالشركة  للتمويه، حيث اضطرت لتغيير اسمها واستخدام اسم منتج آخر بدلاً منه. 

تأخذ المقاطعة الاقتصادية الأولوية هنا، لأنها الأكثر جدوى وجدية، مع ذلك تبدو (المقاومة  الفنية) إن صح التعبير، ذات أهمية خاصة، رغم أنها  أشد تعقيداً نظراً لكون الفن عموماً والموسيقى خصوصاً، من الحقول الأكثر شفافية ولها تأثير نفسي أعمق على المتلقي، مما يتطلب أليات عمل نوعية أكثر.

إلا أن سعي العاملين في المجال الموسيقي لتوسيع إطار بحثهم ودراساتهم والسعي لإغناء التجارب الموسيقية، من خلال الاحتكاك والاطلاع الدائم على تجارب موسيقية مختلفة، تطرح نفسها مستقبلياً بمنأى عن الطغم المالية الكبرى التي تسوق لمنتجاتها بالدرجة الأولى. قد يكون بداية الحلم، زراعة بذور موسيقى صادقة تعبر عن غنى الإنسان، وتكثف خبرته الموسيقية المتنوعة، وتحمل ذلك المشترك الذي يجمعنا.

آخر تعديل على السبت, 06 حزيران/يونيو 2015 17:31