سطور ملهمة من سجن النساء المصريات
من السهل أن تبدأ حياتك الإبداعية مبكرا، معظم الأدباء بدؤوا من سنوات الصبا، لكن من الصعوبة بمكان أن تبدأ متأخرا لأن الأمر حينئذ يحتاج إلي إرادة فولاذية وليس فقط الموهبة.
نادين جورديمير كاتبة جنوب أفريقيا الحائزة على نوبل كتبت قصتها الأولى وهي في التاسعة، لكن الكاتبة المصرية جين بقطر التي سأحدثك عنها هنا نشرت روايتها الأولى هذا العام فقط وهي في التسعين من عمرها! قبل ذلك بعدة سنوات أصرت جين بقطر أن تتعلم الإخراج السينمائي حتى أخرجت فيلما تسجيليا عن الآثار الفرعونية! أما روايتها التي أحدثك عنها فهي " في سجن النساء" الصادرة عن دار الياسمين، وتعرض فيها تجربتها سنوات اعتقالها التي استمرت أربعة أعوام ونصف داخل سجن القناطر مع خمس وعشرين امرأة يسارية أخرى اعتقلن كلهن من مارس 1959حتى يوليو 1964, كانت منهن الفنانة الكبيرة أنجي أفلاطون، وثريا شاكر، وفاطمة زكي، والروائية أسماء حليم، وسعاد الطويل، والكاتبة أممية أبو النصر، وبالطبع جين بقطر مؤلفة الكتاب. وتقول الكاتبة إن العنبر الذي قضين فيه كل تلك السنوات كان مجاورا لعنبر المسجونات بتهم السرقة والدعارة والقتل، وتعرض منه لقصة كريمة الشابة الجميلة المتهمة بالدعارة والتي كلما خرجت من السجن عادت إليه لأنها لم تعد تجد لنفسها مكانا أو حياة خارج القضبان. وثمت مشهد طريف من داخل ذلك العنبر تتشاجر فيه امرأتان تتباهى فيه واحدة على الأخرى بأنها لصة سجاجيد على سن ورمح، بينما الثانية مجرد لصة دواجن تافهة ! في روايتها تحكي على لسان سميرة الصاوي لقاء سميرة بتحية كاريوكا التي كانت محبوسة في زنزانة بمفردها بسجن مصر لعلاقتها بضابط متصل بالحركة اليسارية، وان كاريوكا لم تكن تخرج من زنزانتها إلا بعد أن تضع على رأسها برنيطة أنيقة تخايل بها أعين الضباط والمأمور! مشاهد أخرى مهمة داخل سجن القناطر لليهوديات الصهيونيات ومنهن " داليا " و" إيفا" و"مارسيل نينيو" التي جاء ذكرها في مسلسل رأفت الهجان والتي اعترفت للكاتبة بأنها قامت بالعديد من التفجيرات داخل القاهرة. وتستعرض الكاتبة قصص من حياة النساء المعتقلات داخل السجن وخارجه، تحكي عن ثريا شاكر التي تركت طفلتها نجوى رضيعة ولم ترها لعامين كاملين، إلي أن استدعاها مأمور السجن إلي مكتبه ذات يوم فذهبت إليه مشحونة بالمخاوف والهواجس من تشديد العقوبات عليها، وهناك فوجئت بطفلة صغيرة جميلة جالسة على حافة مكتب المأمور، لكن ثريا شاكر لم تعر الطفلة اهتماما حتى سألها المأمور : أتعرفين هذه الطفلة؟ . ونظرت ثريا إلي ابنتها وسألت المأمور : " من هذه يا جناب المأمور" وكانت تفكر " أيعقل أن تكون ابنتي؟!"، فأجابها " ابنتك" ! وعميت عيناها من الدموع والصدمة وهجمت على الطفلة تحتضنها وتصرخ ! وعندما عادت إلي العنبر ظلت عدة أيام منتحية ركنا وحدها تبكي! مشاهد كثيرة لجيل من النساء الرائعات وهبن شبابهن لحلم عزيز، وسجلتها بقلم مرهف جين بقطر التي تستحق ما هو أكثر من التحية لإرادتها الفذة ولقدرتها على مواصلة أحلامها وهي في التسعين بذلك القلب الشاب العامر بالمحبة والأمل.