زنوبيا تموت.. مرتين

زنوبيا تموت.. مرتين

لا يكفي هذا الصدر ليكون جدار مبكى بعد أن سقطت الجدران جميعها، وليست هذه العيون بقادرة على ملء مآقيها بالدمع المالح الصالح، للعق الخسائر المتوالية، فالموت المظلم الذي يجتاح الحواضر الأزلية يتوسع، ليظل الشرق البديع بظلال الهمج القادمين مع أدوات موته المزنرة بالآيات والسيوف.

لم تنم زنوبيا هذه الليلة، كأنما أيقظها النبأ الأسود بأن (أورليان) الإمبراطور يقود جيشه ليلقي القبض عليها قرب الفرات، ثم يقتادها إلى روما لتموت بائسة، أو لتموت في الطريق عطشاً وجوعاً، ولكنها اليوم تموت مرة أخرى ذبحاً من الوريد إلى الوريد.
أعلم جيداً أن كثيراً من السوريين لا يعرفون «تدمر» المدينة، الأثر الإنساني، الذي قد يجاوز الأهرامات، لما لهذا التاريخ الرابض هنا من ألق، وما لسحر المرأة فيها، من دلالة إنسانية على أن النساء لسن جميلات فقط بل يصلحن كسيدات وإمبراطورات وآلهة.
ومع ذلك يعتبر كل سوري «تدمر» مدينته، التي يفاخر بها العالم، إذا ما أراد تعداد حواضره، وهي ليست رقماً عادياً، أو نكرة لا يعرفها أحد، فـ«تدمر» مقصد السائح الباحث عن لغة ينطقها الحجر، لا تكذب ولا تزوّر، وأهلها يشبهونها بلهجتهم المائلة للصحراء، وسحنتهم الرملية، وصفائهم البارد كليلِها.
تئن زنوبيا الليلة أنيناً يصفع الصحراء، ووجوه السوريين كلهم، أنيناً سيتذكرون جيداً، وسيأتيهم في أحلامهم كابوساً مفزعاً، وسيتذكر العالم المتحضر في كل الأرض أن مدينة، ودولة، وملكة، سُبيت مرتين، وماتت مرتين فقط لأنهم وقفوا على الحياد يتفرجون على نزوع روحها وهذا مالم يشهده التاريخ من قدرة للموت في العودة بأشكاله الظالمة ليفتك بالجمال والحضارة.
تغرق أوصال زنوبيا بالرمل الساخن، وأما الدم فيصعد إلى أعلى ما يمكن لنراه من شبابيك بيوتنا المتبقية، ونشير إليه بأصابعنا المرتجفة، ونهمس في أرواحنا.. هنا كانت زنوبيا الوحيدة والتي صرخت بنا فأغلقنا آذاننا وعيوننا، وصرنا نثرثر كالبلهاء أن هذه الحجارة لا تموت، وأن هذه الأعمدة لا تستنجد، وأن هذا التاريخ تحفظه القلوب، ولكننا في يقيننا نعلم أن القلوب الضعيفة لا يسمح لها بمشاهدة أفلام الرعب وألأكشن، وأن «هيتشكوك» ليس أكثر من مخرج قزم لا يثير الذعر.

نامي زنوبيا على موتنا وخذلاننا.