اعزف لي لحناً حزيناً على طريقة «التايتنك»!
لماذا يجب أن نحزن على طريقة «التايتنك»؟! ذلك السؤال الذي قد تستدعيه مشاهدة الاهتمام الإعلامي بظواهر «الموسيقى التي تخرج من قلب الدمار». لماذا يجب أن يكون الحزن على ألحان البيانو والكمنجات حصراً؟ أن نعيد بكل الصور والأساليب تمثيل مشهد الفرقة التي تعزف لحناً كلاسيكياً حزيناً بينما السفينةُ تغرق..
في الأيام القليلة الماضية، تداولت مواقع التواصل الاجتماعي مشهداً مصوّراً لقائد الأوركسترا العراقية الجديد كريم وصفي، وهو يعزف في الشارع مقطوعات موسيقية على آلة التشيلو، بعد ساعاتٍ فقط من انفجار قنابل قتلت ما يزيد عن عشرة أشخاص في أحد أحياء بغداد (2- 5). في الصورة نرى وصفي متوسطاً مشهد الدمار في وضح النهار، يرتدي بدلته الرسمية ويحتضن آلة التشيلو الخاصة به. يُسمع في الخلفية أصوات سيارات إسعافٍ وضجيج. يقترب رجلٌ مُقعد على كرسيّه المتحرك، يشعل سيجارة ويستمع إلى الموسيقى. فيما يبدأ حشدٌ من الناس بالتجمّع. تُصرّ الكاميرا على التقاط “الحالة” أكثر من تركيزها على العزف أو العازف. إذ نراها تلتفت لتوثّق المكان وملامح الدمار. بعد الاهتمام الذي قوبل به الشريط، بادرت قناة الجزيرة الإنكليزية إلى إجراء حوار مع «المايسترو» كي تسأله عن دلالات الخطوة التي قام بها. لكن اللقاء لم يخرج عن منحاه المتوقّع في تصوير الموسيقى كأداة للدفاع عن الحياة في وجه الموت، ونشر الأمل وتحفيز الناس.
و«عازف البيانو»!
يشابه الاهتمام الذي لاقاه كريم وصفي، الطريقة التي تعاملت معها وسائل الإعلام مع ظاهرة عازف البيانو الفلسطيني الأصل، أيهم الأحمد وفرقة «شباب اليرموك» التي أسسها عام 2013، في مخيّم اليرموك في سورية.
إذ يرى مقال نُشر في جريدة الحياة (2014) مثلاً، أن قصة أيهم تُذكر قليلاً بفيلم (عازف البيانو) للمخرج رومان بولانسكي، الذي يروي قصة العازف البولندي فلاديسلاف سبيلمان خلال الحرب العالمية الثانية. يقول أيهم في المقابلة مع الصحيفة انه أحب هذا الفيلم كثيراً، لكن لم يخطر له للحظة أنه سيجسد يوماً هكذا شخصية.
وبالرغم من أن فرقة شباب المخيّم حافظت بنظر البعض على طابعها المحلي، يبقى التركيز على تسويق صور العازف و”سينمائية مشهد البيانو وسط المخيم الفلسطيني”، وربط كل ذلك بمعاناة العازف البولندي- اليهودي في وجه النازية خلال الحرب العالمية الثانية، محاولة لإخراج الموسيقى من سياقها، باعتبارها رد فعلٍ طبيعي في وجه الألم والحزن والظلم زمن الحرب. وهي أيضاً ابتعادٌ عن تصويرها كأداة إبداعية ابتكرها الإنسان ضمن عملية تفاعله مع بيئته أو تاريخيه.
موسيقى «المفاجأة»!
الأمر قد لا يختلف بمضمونه عن الطريقة التي تم الترويج بها لمبادرات فرقة «ومضة» وغيرها من الفرق الموسيقية التي اعتمدت أسلوب «الفلاش موب» القائم على مفاجأة الناس العابرين في الشارع بعرضٍ موسيقي غير متوقع.. تم الترويج لتلك المبادرات باعتبارها تعبيراً عن إرادة الحياة في وجه الحرب، بالرغم من أنها أداة إعلانية أو تسويقية مستعارة من مجتمعات أخرى، يُفاجئ بها جمهورها بحفلات غير متوقعة في المترو والمول والمطارات. المبادرات الموسيقية السورية التي أخذت من الشارع مسرحاً لها، لم تخرج من صلبه حقاً ولم تعبّر عنه.
ولكن بالعودة إلى ما فعله وصفي، يمكن التذكير أنه، وللمفارقة، في الوقت الذي يختار الكثيرون منا الاستماع إلى أغاني الشجن العراقية، في أكثر لحظاتهم حزناً أو تأملاً، تريد ماكينة الدعاية، تكريس لحنٍ محدد أو مشهد موسيقي يكمل المشهد السياسي والاقتصادي والثقافي المراد تكريسه. ربما كانت مبادرة كريم وصفي وأمثاله، عفويةً حقاً. ربما لم يجد سبيلاً آخر للتعبير. لكنه في النهاية ظهر كمن يغرس آلته وموسيقاه قسراً ضمن كادر الصورة.. اللحن الذي عُزف حزناً على العراق، لم يبدو عراقياً على الإطلاق.
هناك شيء آخر..
في المقابل، وأمام كل هذا الكم من التصنّع، تبقى هناك مشاهد اختزلتها الذاكرة وأحاديث الأصدقاء عن الموسيقى التي تخرج دون قيود أو تصوراتٍ سابقة، حينما يكون الألم أقوى من أن يتم احتماله أو التعبير عنه بالكلمات. لهذي البلاد موسيقاها كما لها رائحتها ومعالمها وأهلها. هناك مئات الحكايات عن الأغاني التي يرددها المعتقلون في السجون، الترانيم التي ترددها الجدات على مسامع الأحفاد حين النوم، أغاني الحصاد.. وهناك أغانٍ عن الأوطان، لم يعد لها مكانٌ على محطات الراديو التي تنشغل ببث ضجاجٍ عنيف مبتذلٍ، صُنع على عجلٍ، لأن الحرب تعطي مبرراً كافياً لصنع أغانٍ هزيلة، وتسميتها زيفاً «وطنية».