الألم إن لم يحرقك..
كيف سأشعر باهتزاز الأرض في نيبال، أو أفهم ما تعنيه حقاً أن تَقلُب هزةٌ أرضية، الحياة رأساً على عقب «حرفياً»، والأرض تحتي ثابتةٌ صلبة لا تتحرك؟
ماذا سيحصل إن توقّفت عن المرور كل يومٍ من سوق الخضار الشعبي؟ عندها لن أرى بطاقات الأسعار التي ترتفع، لن أسمع شكوى الزبائن. وأرى نفاذ صبر الباعة. ماذا سيحصل إن غيّرت طريقي يوماً، ولم أعد أصادف هذا العدد من المتسولين والباعة الجوالين. إن لم أر بائع المناديل الورقية الصغير، الذي ما زال يرتدي سترةً سميكة بالرغم من حلول الصيف، كما لو أنه لا يصدّق بأن الشتاء قد ذهب. إن لم أشاهده يتحرك بين السيارات، محاولاً مسح وجهه المتسخ بكمّ سترته. كيف سأستطيع تذكره فيما بعد؟
إن غادرت الحي القديم، كيف سيصل إلى مسامعي صوت معارك الجيران؟ كيف سأميّز صوت الابن الذي يهدد أمه- بعد أن نزح إلى منزلها- بأن يرميها في الشارع، ثم يعزف طوال الليل على البزق. لن أسمع صاحبة منزلي وهي توبّخ مستأجراً مسكيناً، لأنه أكل حبة “أكدينيا” من الشجرة الكبيرة، وسط فناء الدار. إن لم أعش هنا، كيف كان ذهني سيبتدع مكاناً بهذا الغنى، وهذا الجنون.
إن غيّرت طريقي لطارئ ما، قد تجبرني عيوني على الاعتراف بألمٍ لم أكن أريد أن أراه. أسأل نفسي كيف يمكن مثلاً احتمال الوقوف في الشمس، لساعاتٍ أمام مستشفى الأطفال. ماذا يعني أن أكون أماً لمريض سرطانٍ صغيرٍ برأس حليق، أو أباً لطفلة تنتظر زرع كلية. ماذا يعني أن تعتاد الجلوس على الرصيف والانتظار، بحيث تصبح جزءاً من مشهد بائس ملّه العابرون. لا فكرة لدي على الإطلاق ماذا يعني ذلك! إلا أنني قد لا أمر بجانب مستشفى الموساة، وقد لا أضطر لرؤية ما يحصل هناك، بحيث أنسى أن أسأل عن المعنى.
لم تحرقني الحرب كثيراً، بل اكتفت بأن تخيفني بألهبتها من بعيد. وأنا أبتدع كل يومٍ أساليب جديدة كي لا أنسى. ومع ذلك تتسلل عدم المبالاة إلي. يغلبني نعاسٌ لذيذ بين وسائد وثيرة وأغطية مغسولة. كما لو أنني أحيط نفسي برسائل تذكير أينما تحرّكت، أصوات المنبهات ترن في كل مكان. ومع ذلك أنسى.. أنسى كثيراً كل ما لا أراه، ما لا أسمعه وما لا ألمسه. أخاف أن أسافر، فتصبح البلاد «فكرةً مجردة». تصبح الذكريات فيلماً قديماً، بحيث أشك إن حصلت حقاً، أم كانت محض هلوسة.
ما المخرج؟ وكيف السبيل إلى التحرر من قيود اللحظة، بحيث لا تكون التجربة المباشرة مع الألم إن حصلت، المُحدد الحقيقي أو الوحيد للتفكير بالآخرين، قبل أن ينتصر التعب، أو الضجر، فننسى.
إن لم نر أو نعترف بما يجري حولنا. قد نستيقظ ذات يومٍ فنجد أن منزلنا نحن الذي تدمّر بصاروخٍ أخرق، وأننا نحن لسببٍ ما، نقف على رصيفٍ وننتظر طفلاً مريضاً. تلك هي خيمتنا، الخامسة على اليسار. كيف وصلنا إلى هنا؟ قد نسأل دون أن نقع على جواب.
لا جدوى ربما من تقريع الذات، لأن بلادنا «متحفٌ معاصر للألم». ولكلٍ منا نصيب، بالرغم من غياب العدالة في توزيع الحصص. سننسى أحياناً، ونتذكر فيما تبقى من الوقت. الأقوى منّا والأكثر صواباً، هم أولئك الذين يستطيعون التحرر من قيود اللحظة، بحيث يبتغون إيجاد حلولٍ ومخارج أبعد أمداً وأكثر جدوى، لغيرهم ولهم. دون البحث عن «قارب نجاة يتسع لشخصٍ واحد فقط» ودون أن ينتظروا أن يحرقهم الألم كي يعترفوا بأنه موجود.