الهوية الوطنية بين الماضي والمستقبل

الهوية الوطنية بين الماضي والمستقبل

خلال شهرٍ أو ما يزيد، أعملت «داعش وأخواتها» مطرقتها لتُحطّم قطعاً وكنوزاً أثرية، على امتدادٍ جغرافيٍ واسع، داخل سورية وخارجها. كانت تختلف في قيمتها الحضارية والتاريخية، لكنها فيما بعد تساوت جميعها، في أن تصبح رُكاماً، لا لون له أو معنى. 

كانت البداية مع الأخبار الواردة عن اعتداء التنظيم على متحف الموصل في العراق، ثم وبعد عدة أسابيع ومع احتدام المعارك في الجنوب السوري، نشر بعض أعضاء التنظيمات التكفيرية المسلحة صورةً لهم من قلب المدرج الروماني الشهير في بصرى الشام. أثارت تلك الصور موجة من الهلع، وكثرت موجات الحنين التي تستذكر أهم الحفلات والشخصيات التي احتضنها المدرج التاريخي سابقاً.  ولم يمض وقتٌ طويل حتى بدأت تتالى الأخبار عن أخطار تحيط بمتحف محافظة إدلب جراء تصاعد شدة الأحداث في المدينة، لتتكلل فيما بعد عملية تحطيم الرموز بخبر تحطيم التنظيمات الإرهابية المسلحة لتمثال القائد السوري إبراهيم هنانو أحد أهم رموز الثورة السورية الكبرى في محافظة إدلب أيضاً، بعد أن نشروا صوراً لعناصر التنظيم وهم يدوسون بأقدامهم النصب التذكاري الذي لم يكن مزوداً باسم يعرّف بصاحبه.  

وبالرغم من أن تلك الخسارت الرمزية والمادية قد تختلف في قيمتها، نظراً لاعتبارات تاريخية أو سياسية، لكن المؤكد أن الممارسات الأخيرة أثارت موجة من الجدل متعدد المستويات. ولابد لفهم بعض أبعاده الرجوع في الذاكرة إلى الزمن الذي كان يكثر فيه ترداد شعارات: «سورية مهد الحضارات»، «دمشق أقدم عاصمة في التاريخ» وغيرها من العبارات التي رددها العديد من السوريين غيباً وبثقةٍ عمياء.

 لا يمكن الحديث عن تبلوّر الشخصية السورية المعاصرة اليوم، دون التطرق لذلك الفخر الخفي، بكوننا «أبناء بلاد مهد الحضارات». حتى لو كانت معارف شرائح واسعة من الشعب السوري، لم تتعد حفظ تلك العناوين العريضة، دون امتلاك أية معلومات أو تفاصيل أساسية تدعمها أو حتى تبررها. تلك الهوّة التي كانت تتسع يوماً بعد يوم بين السوريين وتاريخهم. جرّدت تلك العبارات من معناها العميق. وذلك ما يفسر اليوم ربما، ردود الفعل الغاضبة، إزاء مشاهد تحطيم التماثيل، واللُقى الأثرية الثمينة. ذلك أنه وفي الوقت الذي كان فيه الموطن السوري يفقد أبسط حقوقه في العيش الكريم، أو التمتع بحياة سياسية فاعلة تربطه حقاً بقضاياه المعاصرة، كان الشباك المفتوح على ماضي الأجداد نافذة النجاة المُتخيّلة الوحيدة. 

الخسارات التاريخية في سلّة واحدة!

كانت إحدى تجليات نقص المعلومات، صعوبة تحديد حجم الخسارات الحقيقية، ومعايير قياس قيمة ما تدمّر. فالأرقام تبدو صماء، غير ذات معنى. وفي المقابل فإن حالة «عدم الوضوح» التي تغلّف خفايا ما يحصل في المتاحف الدولية والمؤسسات المعنية بحفظ التراث، زادت الطين بلّة. فالمبالغة بالتركيز على ممارسات «داعش» وأخواتها في مجال تحطيم الآثار يجب ألا تبيّض سجّل العديد من المنظمات العالمية والبعثات المشبوهة، التي سرّبت وسرقت عبر سنوات التراث الحضاري للمنطقة، عبر منافذ الفساد الإداري والسياسي. 

في المقابل تختلف قيمة ودلالة تحطيم تمثال هنانو كليّاً، عن كل ما سبق، لأن قيمته رمزية ووطنية في المقام الأول. ذلك أن الإرث الذي تركه هنانو ومعه أبطال وقادة الثورة السورية الكبرى، بلوّر ملامح الهوية الوطنية المعاصرة للسوريين. وبذلك كان الفخر بالإرث الوطني الذي تركه أولئك، مرتبط بقيّمٍ وطنية ملموسة ومحددة كالدفاع عن الوطن والإرادة الحرة المستقلة ورفض المحتل. 

عكست ردود الفعل التي قوبل بها تحطيم النصب انقساماً مشابهاً في الاتجاهات الوطنية نحو تلك القيم تحديداً. وكشفت النقص الخطير في المعلومات إزاء التاريخ المعاصر. فهنانو جنباً إلى جنب مع يوسف العظمة وغيرهم من الرموز الوطنية، لم يَسلموا من عملية التغييب المُمنهجة عبر وسائل الإعلام والمناهج التعليمية والمنابر السياسية، من خلال التعاطي معها في أفضل الأحوال باعتبارها مجرد حدث فردي بطولي. بحيث يكون التحطيم الحرفي للتمثال، خطوة متممة لتحطيم رمزيٍ بطيء حصل في السنوات الماضية. 

المراهنة على المستقبل..

هناك بعض الخسائر التاريخية والآثرية لا يمكن تعويضها بالمعنى المادي، لأنها كانت ببساطة نتيجة تفاعل الإنسان ضمن بيئته في زمنٍ ومكانٍ محدد. لكن ذلك في المقابل، لا يعني التسليم بمقولة ألّا قيمة لنا نحن اليوم، لو لم نكن أبناء أقدم حضارة في التاريخ. ففي الأزمنة التي تكثر فيها الخسارات وتتشعب، لا بد من التعويل على المستقبل، والابتعاد عن النظرة التقديسية للتاريخ، لصالح فهمه مادياً، واستيعاب العوامل الموضوعية والذاتية التي شكلته. 

لا بد من التعويل على المستقبل. والثقة بأنه سيحمل في طياته بذور الماضي. بحيث يكون بناء هوية وطنية معاصرة تحفظ الإرث الحضاري القديم، وذكرى هنانو -ومعه قادة الثورة السورية الكبرى- المهمة الأكثر إلحاحاً. ستصان تلك الهوية عبر تمثّل قيمهم، حتى لو حُطمت تماثيلهم اليوم، أو نُكست سيوفهم ووضعت في أغمادها.

آخر تعديل على السبت, 04 نيسان/أبريل 2015 17:40