«بلد؟.. لأ مش بلد»!
منذ عدّة أعوام، ومنذ أن بدأت التحولات السياسية والاجتماعية تصيب أجزاءً واسعة من العالم حولنا، وشرارتها الأولى في منطقتنا، طفت إلى السطح تناقضات الواقع الثقافي، ودور النخبة، وعجزها عن أداء دورٍ يذكر في سلسلة الاستحقاقات المفصلية. فهل يقع ذلك على عاتقها وحدها؟
قد يكون من غير الواقعي أن نطالب النخبة الثقافية بأكثر مما تستطيع، الاستحقاقات والتحديات التي طرأت على عالمنا كبيرة وعميقة، وليس من الصحيح دوماً صوغ مقولة: «لو أن المثقّفين وبقية النخب لعبوا الدور المنوط بهم في حياة مجتمعاتنا لجنّبوها قسماً من الويلات التي أصابتها على مدى الأعوام الماضية..». هذا القول يغدو مثالياً، لأنه ينطلق من فكرة النخب هي التي تصنع الواقع، بينما الواقع يقول عكس ذلك تماماً، يقول إن النخب هي مفرز لواقع محدّد، هي انعكاس له..
تموضعات
ليس الحديث هنا يدور عن تبرئة ساحة النخبة، بقدر ما يسعى إلى فهم دورها الذي كانت تؤديه في المرحلة السابقة، بما يفسح المجال للتنبؤ بدورها اللاحق دون زيادة أو نقصان. النخبة لطالما كانت نتيجة لواقع سياسي واقتصادي- اجتماعي محدد، ولكن مع درجة معينة من الاستقلالية النسبية، انطلاقاً من هذه النقطة، توزّعت النخبة في بلداننا بين موضعين: إما في كنف أنظمة الحكم، ضمن إطار من يطلق عليهم «مثقفي السلطة»، وهذا النمط كان رجعياً لكونه وظّف العمل الثقافي في إطار ترسيخ دعائم السلطة روحياً، بدلاً من نقدها ثورياً. وفي الحالة الثانية، كانت بعض النخب تصطف خارج الكنف الرسمي لسلطاتها، بالنحو الذي يدفعها بأحد طريقين: الأول البحث عن «كنف» سلطة أخرى في بلد آخر، وهذا شأن رهط من المثقفين الليبراليين الذين انتقلوا إلى العمل ضمن المؤسسات الثقافية الغربية، سواء في الغرب ذاته أو في مؤسساته الثقافية الناشطة في بلدانهم، التي لا تخرج عن كونها مواضع سلطوية، وآخرين ارتهنوا لسلطة البترودولار. الطريق الثاني، هو أن يخضع المثقف لدرجة معينة من التهميش مقابل إبعاد منتوجه الثقافي عن حيّز المساومة. هؤلاء الأخيرون، يضطلعون اليوم بدور أكثر تعبيراً عن حال مجتمعاتهم، لأنهم بالأساس تعاملوا مع منتوجاتهم على اعتبار أنها وظيفة اجتماعية فنية وجمالية غير قابلة للمساومة، وبدرجة أعلى من الاستقلالية..
ومن المؤسف القول بأن هذا النمط الأخير يكاد يكون غير ظاهر اليوم، ولاسيما أن الأضواء لا تتركّز عادة على هؤلاء، فهم بخياراتهم تلك يكادون يكونون قد اعتزلوا عملهم كمثقفين بانتظار انفراجات تسمح لهم بتقديم منتوجهم دونما تنازلات..
زياد.. نموذج شبه وحيد
في آخر إطلالتين إعلاميتين له، أفصح زياد الرحباني عن معاناة كبيرة من حيث ضيق الإمكانات والبيئة من حوله، فالرجل مفلس كعادته، مشروعه الفني متعثر بسبب ذلك، يعاني من محدودية الوسط التي يعيشها في بلده لبنان وطابع الإنتاج الثقافي فيه، كإنتاج مرتهن في غالب الأحيان، يعبّر عن إحدى خصوصيات هذا البلد. من المفهوم أن الضيق الذي يعانيه زياد يعود إلى سبب وجيه، مفاده أن يشعر بأن البلد الذي يعيش ضمنه لا يملك مقومات وصفه كبلد، من حيث غياب الدولة و السيادة والاستقرار السياسي والاقتصادي. يعبر زياد عن انعكاس ذلك كله على صعيد إنتاجه، يفضل الهجرة من هذا البلد، الذي كان قد لازمه طيلة فترة الحرب الأهلية، إلى بلدان عريقة أخرى «تحترم حالها»، بحسب زياد، كروسيا أو ألمانيا!!..
الحال واحدة
صحيح أن زياد يكاد يكون حالة متفردة، وصحيح أنه عانى من غياب مظلّة للثقافة الوطنية لا تساومه على إبداعه في لبنان بلد الـ«هيدا بلد.. لأ مش بلد». لكن السؤال هنا: في بلداننا الحقيقية، التي لم تسلم أمرها لأمراء طوائف و«مخاتير» هل توفرت تلك المظلّة؟.. بالطبع لا، فهل علينا أن ننتظر حتى تصبح البلدان بلداناً؟!..