القصة المثيرة لمسرحية Cradle Will Rock
تعتبر مسرحية «المهد سيهتز» والأحداث المرافقة لعرضها الأول من الأحداث الهامة في تاريخ الفن والسياسة في الولايات المتحدة الأمريكية، وأكثر الليالي إثارة في تاريخ المسرح الأمريكي، وارتبط ذلك بالظروف السياسية في ثلاثينيات القرن الماضي وبالعديد من الشخصيات التي لعبت دور البطولة في ليلة الثامن من حزيران عام 1937 في نيويورك.
تجري أحداث القصة في أمريكا ما بعد الكساد العظيم في 1929 والذي أدى إلى فقدان الآلاف من العمال لوظائفهم، وإلى زلازل اقتصادية خلخلت البنية الاجتماعية الأمريكية، فتشردت العائلات الفقيرة. تشكلت العديد من النقابات العمالية للدفاع عن حقوق العمال، وكان بعضها فاسداً محابياً لأصحاب رأس المال، وعمت الإضرابات في معامل الفولاذ ومعظم الصناعات، حاولت السلطات والشرطة سحقها مستعينة بأصحاب النفوذ الإعلامي والسياسي كويليام راندالف هيرست صاحب معظم الصحف الصفراء في ذلك الوقت وعائلة روكفلر.
ومن أجل إعادة العمال إلى العمل، قدمت مشروع المسرح الفيدرالي الذي أمن وظائف ورواتب لحوالي 14000 عامل في صناعة الترفيه من جهة، وقدم عروضاً أمام 30 مليون مواطن أمريكي، مطلقاً العنان لمسرح أمريكي اجتماعي فقير،من جهة أخرى.
تأثر مؤلف المسرحية، مارك بلزستاين، بأعمال بريخت. وكان مخرجها أورسن ويلز، من أهم ممثلي ومخرجي المسرحيات الإذاعية في أمريكا، بالإضافة إلى شهرته الواسعة في مسرح برودواي وأدواره الشكسبيرية الرائعة الهادفة لتحطيم القيود الأجتماعية عندما أخرج مسرحية «فودوو ماكبث» واستعان بممثلين أفارقة.
تحكي المسرحية قصة مدينة «ستيل تاون» مدينة الفولاذ، والصراع بين أحد عمالقة المال «مستر مستر» المتحكم بمصانع الحديد فيها، وبإدارة «لجنة الحرية» المكونة من الكاهن وصاحب الجريدة وفنانين باعوا نفوسهم له، ودعموا أعماله للتخلص من إضرابات العمال ومحاربة النقابة العمالية، وبين «هاري» النقابي الشريف وصديقته «مول»، الذي يدعو العمال إلى النهوض والمطالبة بحقوقهم، فيقومون بثورة منشدين أغنية « المهد سيهتز».
المناخ السياسي قبيل المسرحية
لم تنجح خطط روزفلت بتشغيل الشباب ولا في قمع الاحتجاجات الواسعة، وفي الأسبوع السابق لعرض المسرحية حدثت العديد من الإضرابات والمظاهرات في نيويورك، فخشيت الحكومة من أن تزيد المسرحية من الإحتجاجات فقرروا تعليقها وجميع أعمال المسرح الفيدرالي، بحجة تخفيض النفقات، إلا أن السبب المباشر وراء ذلك كان تحقيقات لجنة السيناتور «مارتن دايز»، التي توكلت إيقاف ومحاسبة كل من له ميول يسارية في العمل الفني.
فبعد أن قرأت اللجنة بعض المسرحيات واستمعت إلى شهادات بعض الموظفين الحاقدين، أقرت أن المسرح الفيدرالي كان مؤسسة موبوءة بالنشاطات الشيوعية المعادية للحكومة الأمريكية وبالتوجه اليساري، وفي تعليق روجر ايبرت الناقد السينمائي الشهير على الحادثة يقول «لقد كانوا محقين بالطبع، باعتبار أن آخر تواجد للمسرح اليميني كان في اليونان القديمة»
عرض مسرحي حقيقي..!!
في ليلة العرض، حاول ويلز إقناع السياسيين في واشنطن بالسماح له بتقديم المسرحية التي بيعت كل تذاكرها إلا أنه فشل في ذلك، فطار إلى نيويورك إلى مسرح ماكسين ايليوت التابع للمسرح الفيدرالي والنقابة، وفوجئ بالجيش يحاصره من كل الجهات ويمنع الحضور من الدخول، والممثلين من أخذ ثياب العرض والديكورات، باعتبارها ملكاً للحكومة. عندها قرر ويلز أن يُعرض العمل مهما كلف الأمر، فحجز مسرح فينيس غير النقابي، وكان على الممثلين العاملين و600 من الحضور أن يسيروا مسافة 21 مجمعاً سكنياً للوصول إلى المسرح، وفي الطريق ازدادت القافلة بدعوة المتفرجين في الشوارع للحضور مجاناً.
المشكلة الجديدة التي واجهتهم كانت باعتراض نقابتي الممثلين والعازفين على مشاركة الفنانين النقابيين «تحت ضغط السياسيين» بحجة أن النقابيين لا يحق لهم الصعود على خشبة مسرح غير نقابي، وإلا سيتعرضون للطرد. مما اضطر المؤلف مارك بليزستاين أن يقدم العمل منفرداً بأن يعطي وصفاً بسيطاً للمكان والزمان والشخص المتحدث ثم يبدأ بالغناء والعزف.
ومع بداية المعزوفة الأولى يأتي دور «مول»، فوقفت الممثلة «اوليف ستون» التي تلعب دورها من بين الحضور وقامت بالإنشاد معه، مما فاجأ الجماهير وأسرّها، وشيئاً فشيئاً استجمع العديد من العازفين والممثلين شجاعتهم وقاموا بأداء أدوارهم من مقاعدهم مع بعض التعديلات الإسعافية من أورسن ويلز، لتكون أكثر ليالي نيويورك إثارة وارتجالية في تاريخ مسرحها.
استقبلت المسرحية استقبالاً جماهيرياً ونقدياً واسعاً، وكانت المفارقة بعدم القدرة على معاقبة الفنانين النقابيين لمشاركتهم في العمل، لأنهم لم يخرقوا القاعدة ويصعدوا المسرح غير النقابي بل شاركوا من مقاعدهم. استمرت المسرحية بالعرض عدة أسابيع بنفس الطابع الارتجالي، وكانت نقطة انعطاف هامة، فقد أغلق بعدها المسرح الفيدرالي. وزادت شعبية ويلز فقدم لاحقاً العديد من الإنتاجات كمسرحية الراديو الشهيرة «حرب العوالم» و فيلم «المواطن كين»، ولكنه اضطر للهرب إلى أوروباعندما عادت الاستجوابات بخصوص نشاط الشيوعيين في أمريكا بعد الحرب العالمية الثانية.