عطلة نهاية الأسبوع
في بعض دول العالم، أغلب العائلات تحسب حساباً لعطلة نهاية الأسبوع وتخطط لها، حيث يقضونها إما في الأرياف. أو على شواطئ البحار، أو في أعالي الجبال.. تبعاً لهواياتهم واهتماماتهم.. ولكن للأسف في مجتمعاتنا (العالمثالثية) فإن ساعات ما بعد العمل والعطلة لدينا، هي إما للبحث عن فرصة عمل، أو للعب الطرنيب، أو للنوم الطويل، أو للثرثرة هذا بالنسبة للرجل. أما بالنسبة للمرأة – وهنا الطامّة الكبرى – فالعطلة بالنسبة إليها هي عقوبة إضافية، تتمثّل بإنجاز ما تراكم من أعمال منزلية خلال الأسبوع.
أحببتُ أن أقلّد المتحضّرين وأهرب من عالم السياسة وأخبارها التي سمّمت حياتنا. وعقدتُ العزم على قضاء العطلة في إحدى القرى النائية مع أحد الأصدقاء الذي ينحدر من تلك القرية، حيث لا تكنولوجيا ولا زمامير سيارات ولا رنين هاتف ولا دويّ للرصاص أثناء تشييع الشهداء.. بل فقط أصوات حفيف أوراق الشجر وخرير الينابيع..
في السهرة بتلك القرية النائية زارنا بعض الرجال للترحيب بنا.. لفت انتباهي أنهم جميعاً يفتقرون إلى الكروش البارزة والأسنان الكاملة. وجميعهم يدخّنون التبغ البلدي. خجلتُ من نفسي عندما أظهرتُ علبة الدخان ذات الفلتر. مع إنها من أرخص الأنواع الوطنية.
خلال السهرة بدأ بعضهم بالتثاؤب، فجأةً يدخل رجلٌ أربعينيٌّ يلقى تحية المساء ويجلس متجهماً. رحّب به الحضور بأصواتٍ مهلّلة. وبدأ كلٌّ منهم يوجّه له سؤالاً ملغوماً وقد ارتسمت البسمة على وجوه الجميع: (كيفك أبو حميد.. انشالله تصالحت مع مرتك.. أيوالله الدم مابيصير ميّ يا رجل.. بعدين هي بنت عمك قبل ما تصير مرتك.. الشغلة بدها طولة بال..) وبعد أن هدأت تساؤلاتهم، تطلّع بالجميع مدافعاً وقال: (يا جماعة والله ماني ظالم.. أقسم بالله ركّبتلاّ صوبة وقطّعتلاّ الحطبات وحضّرتلاّ ياهن للشتوية..).
دفعني فضولي، وبساطة هذا الرجل وطيبته للانخراط بالحديث، واقتحام شؤونه الشخصية فسألته مواسياً:
(عذراً لتطفّلي يا أخي! لا يوجد أسرة إلا وفيها مشاكل وخلافات.. ولكن بالحوار العقلاني وبتدخّل الوسطاء الأوادم بتنحلّ أكبر المشاكل..).
قاطعني على الفور بصوتٍ مكسور:
(ولك يا عمّي القصة وما فيها قال بدها تلفزيون ملوّن متل أختها .. أي والله لو معي لكنت بدّلتو للتلفزيون أبيض وأسود، ومو بس هيك، ولكنت اشتريتلاّ موبايل كمان.. بس والله ما معنا ناكل.. يا جماعة يا ناس قدّروا موقفي، والله رح جنّ؛ طيب إذا عديلي موظف بالجمارك والكريم فتح عليه وقلّو خود – وألله لا يجعلنا من الحاسدين – دخله هديك الحسبة.. بتجي بتقارنّي بصهرها.. أي والله مو عدالة). وتابع وقد ازداد حزنه: ( أنا زلمه على قدّ حالي.. وقنعان بظروفي.. بركي انشالله بتخلص هالأزمة وبرجع بشتغل متل أول وبتنفرج أمورنا شوية.. ولك الله يلعن هالحياة لأبو هالعيشة).
خيّم على الجميع نوبة من الصمت، وسرعان ما مزّقه صوتٌ عذبٌ لأحد الجالسين مغنّياً: (شفتك يا جفنة عالبيدر طالعة.. وسألتك يا جفنة ليش مفرّعة..).
وطفق الباقون يردّدون معه مبتسمين بأصواتٍ متحدّية خشنة رافضةً الاستسلام لهذا الواقع. وكأنهم أرادوا منازلة البؤس بالغناء.
لحظات ويعلو صوت هذا الرجل الأربعيني وقد لاحت بشائر الأمل على وجهه، ونهض بهمّة فرس وبدأ الرقص.