أمريكا هنا.. أين أنت؟!
أيعقل أننا متعبون إلى تلك الدرجة التي لم نعد نستطيع فيها أن نميّز لحظة الانقلاب فنتأهب. أم أن الغسالة التي عجنتنا وشقلبتنا في حوضها آلاف المرات منعتنا من استشعار خطورة التطور الجديد. هل ذعرنا حينما رأينا باب عهدٍ جديدٍ يفتح، ونحن لم نستطع بعد إغلاق آلاف الأبواب التي شُرّعت حولنا من كل الجهات؟
في نشرات الأخبار ليس هناك ما يستدعي القلق. «لا تخف» يقول المذيع، هم جاءوا لضرب داعش أنت لست مستهدفاً، البلاد ليست بلادك، هي محض مصادفة أن تتكرر أسماء المحافظات السورية تباعاً، وتسع رقعة المناطق المستهدفة، البارحة: الرقة، دير الزور. واليوم: حمص، وغداً .. التضاريس تغيّرت الآن، وكذلك دلالات التسميات. نجحت تقنيات الغرافيك والرسوم ثلاثية الأبعاد باقتطاع دولة العراق والشام من جغرافيا المكان. لا تخف، تقول نشرة الأخبار التي تبث خبر ضربات جديدة تستهدف منشآت ومحطات تكرير نفطية، متبوعة بخبر الزفاف المرتقب لجورج كلوني، لا تخف. لكنك مذعور.
إذا ما حاولنا تلخيص بعض من ردود الفعل «الشعب- فيسبوكية » إزاء أولى الضربات الجوية الأمريكية، دون توخي الدقة، أو ادعاء إمكانية الإلمام بما تضج به جميع أفكار وصدور السوريين. يمكن التكهن بأن هناك من أقعده اليأس والمفاجأة وتتابع الأخبار. ربما فغر فاهه (لا يمكن التأكد من ذلك، لأن الصامتين لا مكان لهم في صخب الفضاء الأزرق) ربما هناك من بكى. وآخرون انتظروا أي تصريحٍ رسمي، أي توضيح، يخبرهم ماذا يحصل حقاً، أعلن آخرون بكلٍ صراحة أنهم غير قادرين على الشعور بشيء. سيّان. يقولون في قرارة أنفسهم أو على الملأ: «الميتات واحدة، ليس هناك ما نخسره بعد، لقد فقدنا كل شيء». لكن إن لم يعد هناك حقاً ما قد نخسره نحن، وتربحه أمريكا، فلماذا لم تكتف بالحرب بالنيابة وتكبدت عناء القدوم إلى هنا؟ لماذا تنفق 3 مليارات دولار، وتخسر كل ثانية واحدة 5000 دولار؟! (التكلفة المبدئية للغارات حسبما نشرتها صحفٌ أمريكية).
وبالطبع كان هناك الشريحة ذاتها التي ترقبّت قبل عامٍ ضربات أمريكية تهز الوطن. واليوم تعددت أسباب سعادتها. فَرحت لأن أمريكا وأخيراً طارت فوق البلاد كي تخلصهم من الإرهاب الذي «يحرجهم» أمام أصدقائهم في دولٍ أخرى. وهناك من لم يستطع أن « يهدي فرحته لأحد»، حينما اكتشف بأنه لم يكن المتعاون الوحيد مع الولايات المتحدة، وأنه سيرتاح الآن مما أسماه «المزاودات الوطنية» التي «صرعت رأسه». يستطيع أن يجلس في شقته مدفوعة التكاليف في بيروت أو إسطنبول مرتاح البال، وهو يطمئن نفسه: «كلنا في الهوا الأمريكي سوا».
«الشعب السوري هو المقاوم»، تلك العبارة رددها الكثيرون في السنوات الماضية. البعض قالها دون أن يصدقها تماماً، لأنه كان يبحث عن جملةٍ رومانسية حماسية يختم بها مقالاً أو لقاءً تلفزيونياً. إلا أن غليان الصدور، والوجوه المتجهمة التي جففتها قسوة الأنباء والشعور بالخذلان والانكسار في الأسبوعين الماضيين، أثبتت أن تلك العبارة لم تكن «مجازاً حالماً». الشعب السوري رغم التعب واختلاط الأوراق ما زال قادراً على تميّز العدو، وهو المقاوم حقاً. وكل ما عدا ذلك قد يتغير ويتبدل ويكتسي وجوهاً جديدة. «أنت مع أمريكا أم ضدها؟» بدا الأمر الأسبوع الماضي بهذه البساطة، وبهذا الوضوح.